السياسة وضرورة النظرة الشاملة
كشف موقف معارضين سوريين من الانتخابات الأميركية عن سيادة نظرة ضيقة إلى القضايا الوطنية والدولية؛ وجهلٍ فاضح في قراءة المشهد السياسي العام ومترتباته؛ وعن تبنّي مواقف من الاستحقاقات المحلية والإقليمية والدولية بناء على تقديرات غريزية، أكثر منها تقديرات مدروسة، والذي تجلى في المراهنة على الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، وتفضيله على المرشح الديمقراطي، جو بايدن، على خلفية أمره بقصف مطار الشعيرات، ردا على قصف دوما بقنابل الكلور؛ وموقفه المعلن ضد إيران؛ وتوقيعه قانون قيصر لمعاقبة النظام السوري ومن يقدّمون له العون في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ وتصريحه حول قرار اتخذه باغتيال رئيس النظام وعرقلته وزارة الدفاع (البنتاغون).
شكلت المراهنة على الرئيس الأميركي المنتهية ولايته نقطةً كاشفةً أماطت اللثام عن جهل أصحاب هذا الموقف في السياسة بشكل عام، وبالعلاقات الدولية بشكل خاص، فالمراهنة تعني، من بين أشياء كثيرة، القفز على قاعدتين هامتين من قواعد العمل السياسي: إنزال الخاص في إطار العام، والربط بين الملفات والقضايا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، حيث لا يمكن تقويم مواقف الرئيس الأميركي المنتهية ولايته من الملف السوري بمعزلٍ عن مواقفه من ملفات إقليمية ودولية أخرى، من جهة، ومن دون الربط بين هذه المواقف من الملفات والقضايا والتأثيرات المتبادلة بينها وبين الملف السوري، وانعكاسها عليه، والنتيجة التي ستترتب عن تفاعل الملفات والقضايا وتأثيراتها المتبادلة، من جهة أخرى.
كان على أصحاب هذا الموقف الإجابة عن مجموعة من الأسئلة المركزية، قبل تبنّي موقفهم من الانتخابات الأميركية، والمراهنة على المرشح المناسب. أولها: ما تأثير القرارات والمواقف السياسية والعسكرية التي صدرت عن الرئيس الأميركي المنتهية ولايته خلال فترة ولايته الأولى (الانسحاب من اتفاقية المناخ؛ الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وقف تمويل منظمة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)؛ وقف تمويل السلطة الوطنية الفلسطينية؛ إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن؛ الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل؛ مشروع صفقة القرن لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما يخدم إسرائيل، مباركة الاستيطان وضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغور الأردن؛ الضغط على دول عربية للتطبيع مع إسرائيل والتخلي عن دعم الحق الفلسطيني في دولة ذات سيادة؛ الانسحاب من اتفاقات للتعاون التجاري والعودة إلى صيغة العلاقات الثنائية بين الدول، الاشتباك مع دول حليفة، ألمانيا وكندا، حول التبادل التجاري وفرض رسوم جمركية على سلعها؛ توتير العلاقات داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ربط حماية الدول الضعيفة بدفع أموال مجزية، ابتزاز الدول الضعيفة والمهدّدة، وفرض عقود اقتصادية وعسكرية عليها هي أقرب إلى الأتاوة منها إلى العقود الطبيعية؛ تشجيع المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، دعم حكومات الأحزاب اليمينية والعنصرية في أوروبا وتأييدها؛ منع مواطني سبع دول إسلامية، بينها سورية من دخول الولايات المتحدة... إلخ)، وما انعكاسها على العالم وعلى الملف السوري وما تأثيرها على العلاقات الدولية وحفظ الأمن والسلم الدوليين في ضوء تزايد عمليات التدخل في شؤون الدول والعمل على خرق القانون الدولي التي أتاحها غضّ نظره، وتساهله مع أصدقائه من القادة التسلطيين والمتنمّرين؟
لا يمكن تقويم مواقف ترامب من الملف السوري بمعزلٍ عن مواقفه من ملفات إقليمية ودولية أخرى
ثاني هذه الأسئلة: ما تأثير علاقة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته بقادة تسلطيين في دول عربية وغير عربية، وتسامحه مع ممارساتهم وتغطيتها، وما نجم عنها من تجاوزاتٍ على حقوق الإنسان، وقمع المواطنين وخنق حرية الرأي والتعبير وتجريم المعارضة والنضال السياسي من أجل الحرية والديمقراطية؟ وهل تشي هذه العلاقة بتوجّه إلى مباركة ثورات ديمقراطية ودعمها، حتى تحقق أهدافها في التغيير السياسي المنشود، أم أنها قرينة حاسمة على نقيض ذلك، ووصفة لمزيد من التمييز والقهر والاضطهاد؟.
ثالث هذه الأسئلة: ما القيمة الواقعية لإجراءاته ضد النظام السوري، قصف مطار الشعيرات، فرض عقوباتٍ على شخصيات سورية وغير سورية، وقانون قيصر، ودورها في وقف عمليات القتل والتهجير والتعفيش والتجويع والإذلال؟ وهذا من دون أن ننسى تقلّبه ومزاجيته العالية التي جسدها قراره المرتجل بالانسحاب من شرق الفرات، وتراجعه عنه بضغط من الجيش. وتمييزه بين المواطنين على أسس العرق والدين والمذهب؛ وتجويفه الجمهورية باعتماده على أسرته وتحويل البيت الأبيض إلى بيت للعائلة. ونزوعه إلى الاعتماد على غريزته في اتخاذ القرارات، بعيدا عن المؤسسات ومنطقها وقواعدها الحاكمة؛ ما يثير شكوكا بشـأن استمرارية مواقفه وضمان ثباتها وديمومتها والبناء عليها.
يجادل بعضهم بأن بايدن لن يكون أفضل من ترامب في تعاطيه مع الملف السوري. وهذا ممكن، لكنه لن يكون أسوأ منه
صحيح أن المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، ليس مثاليا، لكنه رجل دولة وابن المؤسسة، وله خبرات عملية في الكونغرس (سيناتور في مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير من 1973 إلى 2009 وعضو ورئيس سابق للجنة العلاقات الخارجية في المجلس)، والإدارة (نائب الرئيس ثماني سنوات خلال فترتي رئاسة الديمقراطي باراك اوباما). يحترم المؤسسة وينحاز لها، ويؤمن بالعمل الجماعي في الساحة الدولية. وهذا ما أكّده في مقالته "إنقاذ السياسة الخارجية الأميركية ما بعد ترامب"، التي نشرها في مجلة الشؤون الخارجية (مارس/ آذار - أبريل/ نيسان 2020). كتب أنه سيعمل على إعادة التوازن والاستقرار إلى النظام الدولي، وسيتعاون مع الدول الديمقراطية لتطويق الأنظمة التسلطية، ومقاومة التحدّيات التي فرضتها على العالم. بالإضافة إلى العودة إلى اتفاقية المناخ والتعاون الاقتصادي الدولي، والعودة عن قرارات ترامب بفرض الجمارك والحماية الاقتصادية وقوانين الهجرة واللاجئين ومنع دخول مواطني دول إسلامية إلى الولايات المتحدة، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. والعودة إلى حل الدولتين ووقف الاستيطان في فلسطين، وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعادة تمويل السلطة الوطنية الفلسطينية، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في فلسطين. وفق تقديراتٍ طرحت في ضوء حملته الانتخابية، ما يجعله قابلا للقراءة والتقدير ووضع تصور طويل الأمد عن توجهاته وسياساته، ما يسمح بالتخطيط للتعاطي مع الموقف السياسي بنوعٍ من الثقة والاطمئنان.
ضرورة أخذ المواقف بعد الدرس والتمحيص، وبعد إجراء موازنة بين الفرص والمخاطر، القريبة والبعيدة
سيجادل بعضهم بأن بايدن لن يكون أفضل من ترامب في تعاطيه مع الملف السوري. وهذا ممكن، لكنه لن يكون أسوأ منه، من جهة. ومن خلال نظرته الشاملة، سيشيع مناخا دوليا أفضل، الأمر الذي يفسح في المجال لتقدّم في حل الملف السوري، من جهة ثانية. وفي النهاية، هذا المتاح في الخيارات، حيث ليس ثمة أكثر من مرشحيْن، فإما ترامب أو بايدن، والمؤشرات تمنح الثاني أفضلية.
في العودة إلى موقف معارضين سوريين، وتصوراتهم بشأن الخيارات والحلول السياسية، لابد من التذكير بضرورة أخذ المواقف بعد الدرس والتمحيص، وبعد إجراء موازنة بين الفرص والمخاطر، القريبة والبعيدة، وأخذ المواقف التي تخدم المصلحة الوطنية، بعيدا عن الرغبوية وعقلية النكايات السياسية والفكرية، على أن يأخذ الدرس بالاعتبار كل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية وتأثيراتها المتبادلة، فتكون الرؤية شاملة. أو كما عبر المفكر الأميركي المستقبلي، ألفين توفلر، في عبارة مختصرة ومعبرة "هجمة منطقية شاملة"، فالنظرة الغريزية أو الجزئية أو المتسرعة وصفة للخسران والخذلان.