السياسة الخارجية المصرية والفيتو الخليجي الجديد
تستمر مصر في الذهاب في محاور تشكّل عليها، وعلى سياستها الخارجية، قيودا أكبر مما تتيح لها من فرص وفضاءات للحركة، ففي السابق خضعت مصر لفيتو (حق النقض) خليجي على أية محاولة لتطوير علاقتها مع إيران طوال عهد حسني مبارك، وظلّ مستمرا ومستقرا، باستثناء محاولات تقارب لم تستمر، بل امتد الأمر إلى العلاقة مع العراق لاحقا، فعلاقات مصر به تدور في فلك العلاقات السعودية الإماراتية، تطورا وتدهورا، بشكل لا تخطئه عين في العقود الأربعة الماضية.
جوهر الفيتو الخليجي الجديد، القادم من المحور الإماراتي السعودي، أن تمر علاقات القاهرة بفنائها الخلفي، وحتى مجالاتها الحيوية وبالمنطقة والعالم، من خلال أبوظبي والرياض. صحيحٌ أن أبوظبي أصبحت، وفق تقارير، تدفع لشركات تحسين الصورة، وبعضها إسرائيلي، لتبييض وجه الأنظمة والشخصيات العسكرية في المنطقة لدى الولايات المتحدة ودول أخرى، مثلما هو الحال مع عبد الفتاح السيسي (مصر) وخليفة حفتر (ليبيا) وحميدتي (السودان)، لكن ما لا تخطئه عين باحث هو تحول الإمارات إلى المستثمر الأكبر في مصر عربيا، ومستثمرا أهم، في بعض السنوات الأخيرة، من المملكة المتحدة التي ظلت سنوات طوال المستثمر الأكبر، كذلك تحولت أبوظبي والرياض إلى أكبر الدائنين للقاهرة بشكل تدريجي، عبر السنوات الست الماضية.
المثال الأوضح، في إطار هذا الفيتو، أنه موجه ضد أي علاقات مع تركيا، بل ويستتبع مصر في سياسات ومحاور معادية لها، سواء في ليبيا أو شرق المتوسط، بل ويذهب بعيدا باتجاه أرمينيا وشرق أوروبا. صحيحٌ أن هذا المحور لا يملك قراره، وهو جزء من محاور أكبر، إلا أن هذه الدول لا تشكل أكثر من مورد نقدي لتمويل حملات دعائية، من دون قدرةٍ على تغيير الأوضاع على الأرض، فقد فشل في أربع محاولات للسيطرة على طرابلس، بعد دعم مكثف للواء المتقاعد خليفة حفتر، ظنا منها بقدرته على إحراز تقدم حاسم في هذا الملف.
تحولت أبوظبي والرياض إلى أكبر الدائنين للقاهرة بشكل تدريجي، عبر السنوات الست الماضية
وإن كانت المصالح الآنية لمحور ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وولي عهد السعودية محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تقتضي شيطنة تيار الإسلام السياسي، وهي الشيطنة التي أسست لها أبوظبي، حتى قبل إسقاط النظام المنبثق في مصر عن ثورة يناير، فإن الاستمرار فيها لا يخدم استقرار مصر وعلاقتها بعدة دول عريية، يشكل فيها هذا التيار جزءا رئيسيا في المشهد السياسي، كتونس والمغرب والسودان والجزائر، وإلى حد ما الكويت، وهو ما يفسّر فتور العلاقات مع هذه البلدان. وبفضل استتباع هذا المحور لمصر فقد جاءت القاهرة رديفة في حرب التحالف على اليمن التي لم تحرز تقدما بعد خمس سنوات. وفي حصار قطر الذي لم ينتج إلا خليجا مفككا، وأكثر احتياجا لحلفاء من خارجه، وأكثر انكشافا في مواجهة تحدّياته الأمنية والسياسية.
ثم كان إطلاق صفقة القرن المشبوهة في البحرين، بديلا عن القاهرة، الحليف الذي كان استراتيجيا للولايات المتحدة في عملية السلام ومساراته التي لم تنتج سلاما ولا استقرارا بين العرب وإسرائيل، بقدر ما مثلت مضمارا للجري في المكان للنظام المصري، لتبدأ أولى تطبيقاتها باتفاقات سلام وصداقة إماراتية إسرائيلية، ولتعلن أن قيادة المنطقة في عملية التطبيع وترتيب علاقتها بإسرائيل والولايات المتحدة انتقلت إلى الخليج بقيادة إماراتية، وفي أثناء ذلك جرت محاولات استتباع مصر في تحالف طائفي مغاير لطبيعة السياسة الخارجية المصرية التي لم تكن طائفية عقودا، تحت مسمى التحالف السني في مواجهة إيران، وهو التحالف الذي ضم إسرائيل (!)
استمرار شيطنة الإسلام السياسي لا يخدم استقرار مصر وعلاقتها بعدة دول عريية، كتونس والمغرب والسودان والجزائر، وإلى حد ما الكويت
كان من تبعات هذا الفيتو، ونتيجة لسياسات هذا المحور، أن النظام الحاكم في مصر أصبح ليس فقط مستتبعا في قضايا خارجية، بل يتنازل عن أراضٍ من الإقليم المصري لصالح السعودية في إطار قيادة الإمارات والسعودية التطبيع مع إسرائيل، فيتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، لتصبح مصر جزءا من مشروع نيوم المتعثر، والذي حال إتمامه يضمن لإسرائيل اندماجا أكبر في اقتصادات المنطقة، بشكلٍ لم يتحقق لها من قبل، على الرغم من عقود من التطبيع مع مصر، وليحول مضيقا مصريا خالصا إلى ممر مائي دولي، وصولا إلى انتزاع أراضٍ من سكانها في قلب القاهرة (في الوراق) وبيعها لشركات إماراتية تحت بند التطوير العقاري.
يبدو الارتباط العضوي بين مصر والمحور الإماراتي السعودي، المناوئ لتركيا وقطر، عائقاً أساسياً أمام أي محاولة للتقارب مع ليبيا أو تركيا، أو حتى تفكيك الملفات المتشابكة، بغية الوصول إلى تفاهماتٍ بشأن بعضها، وهو ما يثير حفيظة الجانب التركي، إلى حد إطلاق مزيد من التصريحات الاستفزازية، لكن تركيا لا تستطيع توفير بديل للنظام عن هذا التحالف، ولا يستطيع النظام المصري، بسهولة، إعادة تشكيل سياسته الخارجية بعيداً عن هذا المحور، بل قد تشكل قيودا على سياسته الداخلية أيضا، فالشركات الإماراتية تكاد تسيطر على القطاع الخاص الصحي، وبدأت في الزحف نحو التعليم الخاص الدولي، وتسيطر على مساحات شاسعة من المشروعات الزراعية الكبرى التي بدأ إطلاقها في عهد مبارك.
النظام الحاكم في مصر أصبح ليس فقط مستتبعا في قضايا خارجية، بل يتنازل عن أراضٍ من الإقليم المصري لصالح السعودية
ومن تجليات هذا الفيتو (وبركاته)، وأبعاده أيضا، أن ليبيا، حال استقرارها، كان مقدّرا لها أن تستوعب من العمالة أكثر مما كانت تستوعبه عشية اندلاع ثورتها، أي أكثر من مليوني عامل، وهو عدد أكبر بكثير من أضعاف ما تتيحه الإمارات من فرصٍ لعمل المصريين فيها. في المقابل، خسرت مصر الكثير جرّاء الإنحياز غير المدروس لهذا المحور في ليبيا، فعادت إليها معظم عمالتها، وتركزت البقية في الشرق الليبي الذي أوقف إنتاج النفط، ويعاني أزمات حادّة بفضل دفعه إلى حربٍ ممتدة لتصفية خلافات أيديولوجية بين الإمارات وحلفائها وتيار الإسلام السياسي، وأصبح وجود المصريين هناك، جرّاء تلك السياسات، مصدرا لقلق النظام المصري، بدلا من أن يكون مصدر تحويلات ودعم، ولا يمكن أن تعود مصر إلى هذه السوق للعمالة، من دون تغيير كبير في سياستها الخارجية تجاه ليبيا، لن يكون سهلا بدوره، من دون توافق مع حلفائها في هذا المحور.
وفي إطار مكايدة إعلام هذا المحور، ومراكز بحثه ونفوذه الواسع داخل مؤسسات الدولة المصرية، ودفعه مصر إلى مزيد من التصعيد مع تركيا، لتذهب بعيدا إلى حد التنازل عن مساحات بحرية شاسعة لصالح اليونان فقط للمكايدة مع النظام التركي الحالي، على الرغم من أن التحليلات تشير غلى بعض الأصوات المناوئة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان من داخل النظام المصري، لما قد تنطوي عليه من التنازل عن مساحاتٍ بحريةٍ مصرية لصالح اليونان، فتقوم بالترسيم لحدودها على خطوط مع جزر يونانية كانت يوما خاضعة للحكم المصري في عهد محمد علي، وتعتبر هذا نصرا، وهو الترسيم الذي رفضته القاهرة في عهد مبارك.
الغريب في أمر هذا التحالف، و"الفيتو" الذي يفرضه، أنه بقدر ما كان يعد بمزايا اقتصادية بدأت بمؤتمر دعم الاقتصاد المصري في مارس/ آذار 2015، وبمزيد من القروض واستثمارات الأموال الساخنة، توقفت بشكل كبير في آخر عامين، ولا يفترض عودتها في الأمد المنظور بسبب تداعيات أزمة كورونا، فإنه يهدر فرصا بديلة أكبر بكثير. صحيح أن العلاقات الاقتصادية بين القاهرة وأنقرة لم تتأثر كثيرا، لقدرة الأتراك على فصل الاقتصادي عن السياسي إلى حد كبير، لكن هذه العلاقات كان مقدّرا لها في سياق عادي، حتى في حال استمرار مبارك، أن تتطور على نحو أكبر استثمارا وتجارة وحتى تنسيقا بحريا.
سيشكل هذا الفيتو الخليجي الجديد، حال استمراره، قيدا أكبر على تحرّكات مصر في محيطها ومجالها الحيوي، وستكون له تبعات اقتصادية وسياسية ضارّة بأي محاولة لتبني سياسة خارجية مصرية أكثر استقلالا وخدمة لمصالح المصريين في الداخل والخارج، وتنتزع من مصر قيادة المنطقة نحو هاويةٍ لن يكون أكبر آثارها مواجهة التفتت والصراعات الممتدة في اليمن وسورية وليبيا، جرّاء سياسات تلك القوى والمحاور، بل تصل إلى حد انهيار أية محاولة ومشروعات للنهوض في مواجهة أو بالتعاون مع المشروعات الإقليمية المنافسة، بل يقود إلى انسحاق من دون مقابل على شاكلة التطبيع الإماراتي الإسرائيلي.