السلطات اللبنانية تنهي حقبة الانتفاضة

02 يونيو 2022
+ الخط -

بعد حوالي السنتين والنصف سنة من الأزمة المستمرّة. وبعد مناوراتٍ ومواجهاتٍ بالجملة حينًا، وبالمفرّق أحيانًا. وبعد أن جرى تقسيم بيروت بين مجلس نيابي وسرايا حكومية تختصر مصالح طبقة حاكمة من ناحية، وبين كل المناطق والأزقة والأحياء البيروتية وناسها ومتاجرها وبقية المناطق اللبنانية من ناحية ثانية. تمّت الانتخابات النيابية، وقبل أن يجري انتخاب نبيه برّي رئيسا للمجلس النيابي، كانت السلطات اللبنانية قد أزالت جدران بلوكات الإسمنت التي شيدتها الحكومة اللبنانية حولها وحول المجلس النيابي بعد أيام على أعمق وأشرس مواجهة خاضتها الفئات الشعبية في وجهها، والتي تمثلت بانتفاضة 17 أكتوبر(2019).

لم يكن أمر إزالة هذه البلوكات مجرّد قرار عبثي، ولم يكن بمثابة تحصيل حاصل، وحتمًا لم يكن حدثًا روتينيًا في دولةٍ تعيش حالة ترنّح مستمرّة. بل كان قرارًا مدروسًا، ماكرًا، له دلالات لا تعدّ ولا تُحصى. دلالات لا تختلف كثيرًا عن دلالات وضعه وإزالته في المرّات السابقة، حيث كانت تبدأ وتنتهي المواجهات. فهذا النوع من الجدران لم تشيده السلطة في لبنان، للمرّة الأولى في الانتفاضة الأخيرة، بل كانت تشيّده عند كل منعطفٍ ومع كل مواجهة، وفي مقدمها مواجهات عام 2015. تلك المواجهات التي هيأت الأرضية لحدثٍ استثنائي تمثّل بالانتفاضة الأخيرة.

يبدو أن السلطة كانت في حاجة لهذه الخروق التي حدثت في الانتخابات، لكي تسيّج ديمقراطيتها المزيفة

من هذا المنطلق، يمكن القول إن خطوة إزالة هذه البلوكات، وهذا الجدار، وانتخاب نبيه برّي رئيسا، بمثابة إعلان انتهاء مرحلة كاملة، خروج السلطة من خندق ومأزق كانت تتموضع فيهما. إنه إعلان انتهاء الانتفاضة بكل مفاعيلها. ذهب متابعون إلى التخفيف من وطأة الأمر، حيث اعتبروا أن كل ما كان من الممكن تحقيقه في الشارع، وفي التحرّكات من خلف هذا الجدار، بات يمكن تحقيقه من داخل المجلس النيابي، إلا أنها قراءة غير دقيقة وتفتقر إلى أبسط شروط حصر إمكانات المشهد، لأسبابٍ كثيرة لا يمكن ذكر إلا بعضها في هذه العجالة.

لم تعلن السلطات اللبنانية بهذه الخطوة انتهاء الانتفاضة فحسب، بل أعلنت أن الدور الذي كانت تلعبه بلوكات الإسمنت لناحية حمايتها، بات يؤدّيه النواب الذين خرقوا لوائح السلطة في الانتخابات النيابية الأخيرة. خصوصًا أن هذه الخروق أمام مآزق لربما لها بداية، لكن لا نهاية لها. لذلك، أخذت السلطة نفسًا عميقًا أنعش رواياتها، نفسًا أعاد لها بعض حيويتها وبعض الثقة بالنفس، نفسًا أعاد الطابة إلى ملعبها وفي شروطها وقواعدها، وباتت هي تتحكّم بشروط اللعبة من جديد. لقد أنتجت الانتخابات النيابية أخيرا خروقات من هنا وهناك، خروقاتٍ لم تستطع إطاحة التسويات السلطوية لناحية انتخاب رئيس المجلس أو نائبه، خروقاتٍ كانت بمثابة حاجة جدّية إلى القوى التقليدية في المجتمع، القوى الطائفية الممسكة بمفاصل الدولة والمستبيحة لمؤسساتها وأصولها وقوانينها.

استطاعت السلطة التقليدية، في الانتخابات، وفي انتخاب برّي رئيساً للمجلس، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء

لا تقوم المقاربة أعلاه، ولا تتأسّس على نظرية المؤامرة، أبدًا ليس من هذا المنطلق يمكن قراءة وحصر التموضع والأحداث. بل يبدو أن السلطة كانت في حاجة لهذه الخروق، لكي تسيّج ديمقراطيتها المزيفة، لكي تقف خلفها وتبرّر أفعالها، سواء أمام جماهيرها في الداخل، أم أمام القوى الإقليمية والدولية من الخارج. إذ بات بإمكانها اختصار كل حركة الاعتراض بكتلة لا تتخطى 17 نائبًا، في أحسن الأحوال، لا مشروع سياسيا واضحا يجمعهم، خصوصًا في القضايا المصيرية التي يتمحور الانهيار حولها. سواء تلك القضايا المتعلقة بالموقف من المصارف وقطاعها، وهي أحد المداميك الأساسية للدولة. أو لناحية السؤال المحوري حول من سيدفع ثمن الانهيار ومن سيتحمّل مسؤوليته. أو السؤال عن بيع أصول الدولة... إلخ. وفوق هذه وتلك، الموقف من سلاح حزب الله. بما يعني أن النقاش عاد إلى المربع الأول، وهذا جل ما كانت السلطة تطمح إليه، بل هو بمثابة هديةٍ ثمينةٍ لأي سلطة، ناهيك عن سلطة تعلم جيدًا كيف تختبئ خلف مئات القشور التي تغلفها؟ سلطة تستخرج مجموعة أرانب من صندوق، أو من قبّعة، وليس أرنبًا واحدًا؟ سلطة تعلم كيف تفرض معادلاتها وشروطها على المجتمع، من خلال تلاعبٍ سريعٍ ومباشر بسعر صرف الدولار. وفوق هذه وتلك، سلطة يمكنها أن تشعل حربًا أهلية، وتخاطر بسلمها الأهلي نفسه، بهدف البقاء.

يمكن القول إن السلطة التقليدية استطاعت، في الانتخابات النيابية اللبنانية أخيرا ، وفي انتخاب برّي رئيسا للمجلس، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولو مرحليًا، للتعمية على استحالة تفادي النتيجة الحتمية للانهيار، وذلك عندما استدرجت بعض النواب الجدد إلى حقلها، واستدرجت فئات الشعب اللبناني التي انتفضت إلى بيت طاعتها. لقد أعادت الشعب إلى حقل رمايتها، من خلال وضع النواب الجدد أمام سلسلة طويلة من آليات التكبيل بتفصيلات دستورية وقانونية وإجرائية ستعيق (وتحاصر) الكتل البشرية التي انتخبتهم. لقد استطاعت السلطة بناء الجدران بين الناس وبين آمالهم وتطلعاتهم، فتحرّرت قليلًا من الجدران التي كانت تأسر نفسها خلفها.