السقوط الحرّ والإنقاذ المتأخر
يبدو المشهد العربي مقلقاً للغاية، فما يحدث في لبنان اليوم من أزمات داخلية متعدّدة، من الخدمات الرئيسية إلى الأسعار فالوضع السياسي، يمكن أن يكون صورةً مصغّرة لما قد يحدث في دول عربية عديدة، جرّاء الأزمات المركّبة المتراكمة التي لم تعد سياسية فقط، بل أصبحت شاملة... ما هي التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات العربية؟
أزمة البطالة التي تعني، في جوهرها السياسي- الاقتصادي- المجتمعي، وجود ملايين العاطلين عن العمل من الشباب الذين ينتظرون فرصاً محدودة وضعيفة، ليمارسوا حياة طبيعية. وتعني أزمة بنيوية في علاقة المجتمعات بالحكومات، وقنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة في وجوه الجميع.
أزمة الخدمات الأساسية من كهرباء وماء أصبحت تهدّد الأمن اليومي لمصير ملايين البشر، وما نراه من انقطاعات متكرّرة ومستمرة للكهرباء في العراق وسورية ولبنان، وتقارير الجوع في اليمن والسودان، مؤشراتٌ على فشل مروّع للأنظمة في تأمين أبسط حقوق الإنسان.
أزمة الغلاء والأسعار وعدم قدرة شرائح اجتماعية عريضة على الإمساك بمتطلبات الحياة الرئيسية، وفي قلب هذه الأزمة تقع هواجس الطبقة الوسطى التي أصبحت أكثر قلقاً على مصيرها ومستقبلها من الطبقات الفقيرة، لأنّها (الطبقة الوسطى) تنزلق بالتدريج نحو العجز عن التكيّف مع الظروف الاقتصادية الجديدة. والأخطر أنّ تداعيات كورونا لم تتبدّ بصورتها النهائية بعد، وتأثيرها المدمّر على هذه الطبقة.
أزمة سياسية تجتاح أغلب الدول العربية؛ جرّاء الإصرار الرسمي على المضي في الأساليب والمسارات التقليدية في ترجيح المنظور الأمني في التعامل مع الشعوب، من دون إدراك حجم التغيرات والتحولات الهائلة في المجتمعات. ويقع في قلب الأزمة السياسية عدم قدرة الأنظمة على التعامل مع جيل الشباب الذي يمتلك من الأدوات والخيارات الهائلة بديلاً عن الأساليب التقليدية، ويشعر بحالةٍ من الاغتراب السياسي، والتهميش في مواقع القرار والمسؤولية، في الوقت الذي يواجه صعوبات اقتصادية كبيرة تحول دون اندماجه في عجلة الاقتصاد والقدرة على ترسيم المستقبل.
أزمة ثقافية - أخلاقية مع انتشار المخاوف المتبادلة، وتراجع منسوب الثقة في أوساط المجتمعات ذاتها، وبروز الظواهر السلبية جرّاء الفقر والبطالة والتهميش، بالتوازي مع تفشّي انطباع عام لدى المجتمعات بانتشار الفساد السياسي والتزاوج بين المال والسلطة، ما يعزّز الفشل البيروقراطي - الإداري في دولٍ ومجتمعاتٍ كثيرة، وهو فشلٌ ينعكس، بالضرورة، على الخدمات الأساسية المقدّمة للمواطنين، وعلى الحياة اليومية في علاقتهم بالسلطة.
مثل هذه الأوضاع المأزومة لا يكفي معها أن تُختزل مطالب الإصلاحيين بالإصلاح السياسي، ولا الاقتصاديين بتحسين شروط الاستثمار، فالعالم العربي اليوم أشبه بحالة سقوط حرّ، داخلياً وخارجياً. لا قدرة على مواجهة التحديات الداخلية، ولا الأخطار الخارجية. وهي حالة تستدعي "خطط إنقاذ" شاملة، لوقف السقوط والعمل على استنهاض المجتمعات، وكلما تأخرت هذه وصفات العلاج الإنقاذية زادت أوضاع المرض سوءاً وتعزّزت، وأصبحت الكلفة المطلوبة مضاعفة، وأكثر صعوبة وتعقيداً.
نعم، الديمقراطية مفتاح مهم من مفاتيح خطة الإنقاذ، لكنّها ليست وصفة سحرية، ولا تأتي دفعة واحدة، ولها شروط وروافع مجتمعية وثقافية واقتصادية، ونشاهد بأعيننا ما يحدث في تونس، وبدرجة أقل المغرب، فعلى الرغم من أنّ التحول الديمقراطي أفضل حالاً من غيرها إلّا أنّ الوصفات الاقتصادية التقليدية ما تزال سارية، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية تمثل اليوم مشكلة حقيقية وجوهرية في تعزيز المسار الديمقراطي، ومدى إيمان المجتمعات، بخاصة جيل الشباب به، والنتيجة قد تكون أكثر خطورة؛ بأن يفقد الشباب الثقة في الممارسات الديمقراطية بوصفها حلّاً رئيسياً للأوضاع المتردّية!
عندما انطلقت نداءات الربيع العربي كانت تركّز على ثلاث قيم أو أهداف أساسية: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، وهو ثالوثٌ يعكس بأمانة ما تفتقده الشعوب اليوم، ومن دون أن تكون هنالك خطط توافقية وطنية للخروج من المسارات الحالية، فإنّ السير باتجاه واحد (سياسي أو اقتصادي) كالقفز بقدمٍ واحدة على حبل رفيع مشدود فوق وادٍ سحيق!