الزلزال وترك المنكوبين السوريين

13 مارس 2023
+ الخط -

الزلزال ظاهرة طبيعية مدمّرة، لكنه يتحول إلى ظاهرة سياسية، عندما يكون مدمّراً ويقع في منطقةٍ تعيش ظروفاً سياسية معقّدة ومتداخلة، مثلما هو الحال في زلزال كهرمان مرعش الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سورية. 
في مثل هذه الظروف، تعمل الظاهرة الطبيعة في الواقع السياسي على مستويين: الأول، كظاهرة كاشفة لواقع محجوب، يأتي الحدث ليكشف عيوباً وأفعالاً لم نكن لنعرفها لو لم تقع هذه الظاهرة الطبيعية. الثاني، تعمل كظاهرة منشأة لوقائع جديدة، في حدثٍ يُوقع الدمار والضحايا، يدفع باتجاه القيام بأفعال جديدة لمعالجة الآثار المدمّرة للظاهرة الطبيعية، وهذا ما كان ليحدث من دون وقوع الزلزال وآثاره المدمّرة.
في تركيا، كشف الزلزال عن فساد كبير في الأماكن التي تعرّضت للزلزال، حيث انهارت مشاريع بناء عديدة تم إنشاؤها حديثاً، وهو ما يعني أن هذه المشاريع لم تراعِ مواصفات البناء المقاومة للزلازل، التي يفرضها شرط البناء في هذه المناطق بوصفها منطقة زلازل. ويفيد العدد الكبير من الأبنية التي انهارت بأن ظاهرة الفساد ليست عارضة وهامشية، بل هي منتشرة بكثافة، ما يعني أنها ليست ظاهرة إدارية، حيث الفساد الهامشي موجود في كل البلدان، حتى الأكثر شفافية، لكنها تشير إلى أنها ظاهرة عامة، ما يعني أنها تشير إلى فساد سياسي أدّى إلى وقوع ضحايا كان يمكن إنقاذهم لو التزم متعهدو البناء ومنفّذوه بشروط البناء ومعاييره في البلديات التي ضربها الزلزال.

كشف الزلزال في سورية عمق الخراب غير المسبوق بعد صراع دموي تجاوز عمره عقداً

يحتاج الفساد السياسي معالجة سياسية، والمحاسبة في تركيا ستكون عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات المقبلة. وإذا قرّر الناخبون الأتراك أن السلطة السياسية تتحمّل مسؤولية الفساد الإداري عن انهيار الأبنية في تلك المناطق، فإن الرئيس التركي والحزب الحاكم سيدفعان ثمن هذا الفساد في صناديق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 14 مايو/ أيار المقبل. وبذلك سينشئ الزلزال الذي كشف الفساد في البلديات التي ضربها الزلزال وقائع سياسية جديدة في معاقبة الحزب الحاكم في تركيا.
الموضوع في سورية أكثر تعقيداً، بحكم الظروف التي تعيشها سورية، خصوصا المناطق التي ضربها الزلزال، التي يسيطر النظام على جزءٍ منها، والمعارضة على جزءٍ آخر. فقد كشف الزلزال في سورية عمق الخراب غير المسبوق بعد صراع دموي تجاوز عمره عقداً. وتبيّن أنه ليس هناك أبنية ضعيفة وخارج أي موصفات بلدية وفساد مستشرٍ فقط، بل وغياب مؤسّسات الدولة والبلديات، وقد ترافق مع إفقار شديد للسكان في كل مكان، وجعلهم غير قادرين على تلبية حاجاتهم الرئيسية. وبذلك لم تكن الأماكن التي يسيطر عليها النظام السوري على مستوى الحد الأدنى لمعالجة الكارثة، ولم تكن أماكن المعارضة كذلك. وتبيّن أن الخراب أعمق من كل تصوّر، فقد اضطر كثيرون لأن يتعاملوا مع الكارثة بأيديهم العارية أو بالأدوات البسيطة المتوفّرة لهم، ولم يحصلوا على أي مساعدات، بل على العكس، النظام يسرق المساعدات. وفي بعض المناطق، تم تصوير المساعدات أمام الكاميرات، ومن ثم أخذها من دون توزيعها بعد ذلك. حتى إن رأس النظام عندما عدّد الأماكن المنكوبة في سورية، لم يذكر محافظة إدلب، لأنها ليست تحت سيطرته، وبالتالي، هي ليست جزءاً من سورية المفيدة. وكذلك الحال، في مناطق المعارضة، لم تجد هذه المناطق المنكوبة المساعدة المناسبة، ومناطق كثيرة كانت مدمّرة أصلاً بفعل قصف النظام لها، حيث ضعفت مبانٍ كثيرة بسبب قصف النظام الذي استمر سنوات، وجاء الزلزال ليطيحها. وبذلك، لم يجد المنكوبون في المناطق السورية على طرفي الصراع المساعدات اللازمة، واعتمد النظام المساومة السياسية والتلاعب بآلام الناس، لتسويق نفسه على المستويين، الإقليمي والدولي، وذلك كله لإدخال المساعدات الدولية الشحيحة، والتي يحاصرها النظام، من أجل معاقبتها، وفرض مرور المساعدات عن طريق المناطق التي يسيطر عليها حتى يسرقها.

ما يجري في المناطق المنكوبة في سورية فضيحة أخلاقية بكل المقاييس

ومن جهة الأفعال التي أنشأتها الكارثة في السياق السوري، حصل النظام على اتصالات من رؤساء عرب لتعزيته بالضحايا، ولمدّ علاقات سياسية معه، رغبة من أطرافٍ عربية تسويق النظام من جديد، بدأت من خلال المساعدات التي أرسلت إلى النظام من دول عربية، والتي ترافقت مع زيارات مسؤولين عرب ودوليين دمشق لمعالجة الموضوع، وتم تتويج هذه العلاقات بزيارة رأس النظام مسقط. 
تم ترك المنكوبين السوريين وحدهم في مواجهة الكارثة، لم يتركهم النظام وحده، فقد فعل الزلزال "ما تمنّى النظام أن يفعله في هذه المناطق"، كما عبرت إحدى الصحف الأميركية. بل، حتى المساعدات الدولية لم تُقدّم لهم شيئاً، فعوقبوا مرّات متعدّدة، لمجرّد أنهم يعيشون في منطقةٍ لها تعقيداتها السياسية، ويعاقبون على وجودهم في ديارهم، وكأنهم لا ينتمون إلى الجنس البشري. 
ما يجري في المناطق المنكوبة في سورية فضيحة أخلاقية بكل المقاييس، فإذا لم تتوفر الآليات والمساعدات من أجل مساعدة من بقوا تحت الردم فترات طويلة، والتي حاول السكان المحليون القيام بما عليهم بأدواتهم البسيطة، إلا أن الناجين الذين فقدوا بيوتهم لم يعد لهم مكان يلجأون إليه، ولم يستطيعوا الحصول حتى على خيام، وبقوا في العراء، وهم الذين عانوا من ظروف قاسية بسبب الصراع، وجاء الزلزال ليكمل القسوة ويجعلها مطلقة، حيث أصبحوا ضحايا النظام وضحايا الطبيعة وضحايا المؤسّسات الدولية، وأصبحوا ضحايا للمرّة الألف، من دون أن يجدوا من يساعدهم على مأساتهم.
كشف الزلزال فساداً في تركيا وخراباً في سورية، وإذا كان الفساد التركي سيجد طريقة للمعالجة السياسية في الانتخابات، فإن الخراب السوري لن يجد من ينظر إليه، حيث تستمر جرائم النظام بحق السوريين، ويكتشف السوريون، المرّة بعد المرّة، أن المجتمع الدولي لا يراهم، ولا يريد أن يراهم، سواء كانوا ضحايا النظام، أم ضحايا الطبيعة.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.