الولايات المتّحدة: أنا من يحدّد الخير والشر
كانت حرب تحرير الكويت في العام 1991، بتحالف دولي عريض بقيادة الولايات المتّحدة بإدارة جورج بوش (الأب)، إعلاناً لنهاية الحرب الباردة ونظام القطبَين، وتتويج الولايات المتّحدة قطباً وحيداً في العالم. وكان من أكثر نتائج هذا التحوّل أهمّية، انهيار قواعد الصراع، التي توافق عليها القطبان، خلال تاريخهما الطويل، وأكثر ما خسرته الولايات المتّحدة أهمّية، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، أنّها فقدت عدوّها. انتظرت الولايات المتّحدة حتّى أحداث 11 سبتمبر (2001) ليعلن جورج بوش (الابن) أنّ "الإرهاب" أصبح العدوّ الرئيسي للولايات المتّحدة، وأنّ على الجميع أن يقفوا معها، ومن لن يفعل ذلك فسيكون "عدوّنا"، وصيغ ذلك بلغة تهديدية: "من ليس معنا فهو ضدّنا".
منذ ذلك الوقت، تكرّرت التهديدات للعالم بأسلوب سافر، ووصلت خلال العقود الثلاثة المنصرمة مرّات عدّة إلى دول أوربية، مثل ألمانيا وفرنسا، التي انتقدها المسؤولون الأميركيون، وبطانتهم، انتقاداً لاذعاً، لمعارضتها بعض المواقف الأميركية، خاصّة احتلال العراق في العام 2003. قبل حربها على العراق، لجأت الولايات المتّحدة إلى الأمم المتّحدة للتغطية على حربها، وكان ذلك، كما صرّح الرئيس الأميركي حينها، لإعطاء فرصة للهيئة الدولية، قبل تصرّف الولايات المتّحدة وحدها بشأن العراق. وما قيل بشأن العراق، قيل، بشأن كلّ القضايا التي كان فيها للولايات المتّحدة مصالح لا يوافق عليها المجتمع الدولي. وعندما قالت الإدارة الأميركية أنّ صبرها نفذ، كانت تعني الجميع، خاصّة تلك الدول التي شكّلت عقبة أمامها في مجلس الأمن للحصول على القرار الذي تريده بشأن العراق. ولم يتورّع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد عن السخرية من "القارّة العجوز"، لأنّ ألمانيا وفرنسا لم تكونا مع الحرب على العراق. في مارس/ آذار 2003، أعلنت حكومة الولايات المتّحدة أنّ "الدبلوماسية فشلت"، وأنّها ستمضي في "تحالف الراغبين"، لتخليص العراق من صدّام حسين ومن أسلحة الدمار الشامل التي أصرّت كلّ من الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة على امتلاك العراق لها، والتي تبيّن بعد احتلال العراق أنْ لا وجود لها.
تستخدم الولايات المتّحدة في تحرّكاتها السياسية لغةً تُعسكر السياسة على قاعدة أنّ القوّة قادرة على إنجاز كلّ الأهداف السياسية
تنطق السياسات الأميركية بأنّ إرادة الولايات المتّحدة يجب أن تشكّل إرادة دولية، والتنازل الذي يمكن أن تقدّمه شكلي بشأن الصياغات التي لا تمسّ بالجوهر. وإذا لم تمرّر الولايات المتّحدة سياساتها بوصفها تمثيلاً للإرادة الدولية، فإنّ المنظّمة الدولية تكون قد فقدت مصداقيتها، وتكون الإدارة الأميركية مضطرّة إلى التحرّك منفردة وفرض إرادتها على العالم. تستخدم الولايات المتّحدة في تحرّكاتها السياسية لغةً تُعسكر السياسة، على قاعدة أنّ القوّة قادرة على إنجاز كلّ الأهداف السياسية، وما دامت أنّها تملك القوّة الأكبر في العالم، فعلى مالك القوّة أن يفرض شروطه على الآخرين وعلى الآخرين الاستجابة. حاولت الإدارة الأميركية تفسير ما جرى بلغة مسطّحة يُكرّرها بعض الكتّاب الأميركيين؛ "لأنّهم يكرهوننا"؛ "كراهية" الآخرين الولايات المتّحدة تأتي لأنّها دولة قويّة وحرّة، وهو ما يثير غضب الآخرين منها، من دون أن يرى هذا المنطق المُسطّح نتائج السياسة الأميركية في كلّ مكان في العالم. وبحسب هذا المنطق، فإنّ كراهية الآخرين للولايات المتّحدة تجعلهم يعملون على المسّ بالمصالح الأميركية أو تهديد أمنها. وحتّى يجري منع هذه الجماعات والدول من المسّ بالمصالح الأميركية، أقرّت إدارة بوش (الابن) استراتيجيتها الجديدة التي أطلقت عليها اسم "الحرب الوقائية"، وهي تعني استعداد الولايات المتّحدة للتدخّل في أيّ مكان يمكن أن يشكّل تهديداً لها، سواء كان هذا التهديد حقيقياً أم غير ذلك. وبذلك، تبيح لنفسها التدخّل في كلّ مكان بناء على تقديرها بأنّ هذا المكان يُشكّل خطراً مُحتملاً عليها، وليس خطراً أكيداً. وبعدها احتلّت أفغانستان والعراق، واغتالت مُسيّراتها ومجموعات الكوماندوس الأميركية من اعتبرته عدوّها، سواء في أفغانستان أو اليمن أو سورية أو باكستان، أو غيرها.
احتلّت الولايات المتّحدة بلدين، وطاردت المئات، هنا وهناك، ذلك كلّه من أجل أمن الولايات المتّحدة، وبعد ذلك كلّه، وبعد مئات مليارات الدولارات التي دفعتها، جاءت لتقول إنّ هذه السياسة لم تكن صحيحة، وعلينا الانسحاب من العراق وأفغانستان، ولم تبد أيّ اعتذار عن القتل والدمار الذي سبّبته. وبحسب دراسة أجرتها جامعة براون في 2019، تناولت تكاليف الحرب في أفغانستان وباكستان، أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 978 مليار دولار، وقد أنفقت كلّ من ألمانيا وبريطانيا، اللتَين امتلكتا قوّات عسكرية هناك، حوالي 50 مليار دولار.
تصرّ الولايات المتّحدة أنّها وحدها التي لها الحقّ في تحديد الشرّ والخير وعلى العالم أن يخضع لإرادتها في هذا التحديد
وأفادت تقارير بأنّ الحرب على العراق كلّفت الولايات المتّحدة حوالي تريليوني دولار، ويشمل هذا المبلغ تكاليف الإنفاق العسكري في العراق والأموال المخصّصة لرعاية المحاربين القدامى في حرب العراق، والفائدة على الديون المتكبدة لتمويل المشاركة العسكرية الأميركية في العراق. أيّ صورة لأفغانستان والعراق، لو تم توظيف هذه الأموال لتنمية هذين البلدَين، وغيرهما من البلدان بدل تدميرهما؟! يبدو سؤالاً ساذجاً، لا تبني الدول قوّتها بالأعمال الخيرية، إنّما بإظهار قوّتها، وهو ما أرادته الولايات المتّحدة في حربها على الإرهاب. رغم أنّ الأميركيين أنفسهم يميّزون بين القوّة الصلبة والقوّة الناعمة، كان يمكن اعتماد سياسات القوّة الناعمة، بدلاً من سياسة الانتقام من العالم، التي اتُّبِعَتْ بعد أحداث 11 سبتمبر، لكنّ هذا لم يكن خيار الولايات المتّحدة.
مراجعة السياسة الأميركية والخروج من العراق، وأفغانستان التي كان الخروج منها مذلّاً، حيث عادت "طالبان" إلى حكم أفغانستان، وهي التي طردتها الولايات المتّحدة من الحكم عندما غزت أفغانستان في العام 2001. ولم تُؤثّر هذه المراجعة على ازدواجية المعايير في سياساتها، فلا ترى الإدارة الأميركية أيّ حرج، أن تدين الاحتلال الروسي أوكرانيا وتُقدّم مساعدات بمليارات الدولارات للتصدّي لهذا الاحتلال. أمّا مع الاحتلال الإسرائيلي فالوضع مختلف، فهي تدعم الاحتلال في حربه الوحشية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وتحميه في المؤسّسات الدولية، وتسعى إلى معاقبة محكمة الجنايات الدولية، لأنّ المُدّعي العام طالب بمُذكّرة توقيف في حقّ رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير أمنه بناء على جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في قطاع عزّة.
تصرّ الولايات المتّحدة أنّها وحدها التي لها الحقّ في تحديد الشرّ والخير، وعلى العالم أن يخضع لإرادتها في هذا التحديد، فهي تحدّد من هو الضحية ومن هو الجلّاد، حتّى لو كان الواقع يصرخ بغير النظرة الأميركية المُنحازة، وعلى العالم الخضوع لما تريده الولايات المتّحدة، وهذا ما تحاول الأخيرة ترسيخه بفجاجة ووقاحة في الحرب الوحشية والدموية على غزّة، والتي ترى فيها الولايات المتّحدة حرباً تدافع فيها إسرائيل عن نفسها، أيّ سخرية أكثر مرارة من هذا؟!