الرقص الخطير بين إسرائيل وحزب الله
من الواضح أن ثمّة قراراً داخل إسرائيل بمواصلة الحرب على غزّة، بإجماع يعكس رغبة إسرائيلية بإحكام السيطرة على المدينة الساحلية، وإن بإعادة الاحتلال المباشر. ولا يبدو أن نتنياهو سيستسلم لضغوط الإدارة الأميركية التي يطلق مسؤولوها تصريحاتٍ تنتقد الاستمرار في الحرب من دون أخذ المدنيين بالاعتبار، ويشكِّل التهديد الإسرائيلي بمواصلة الهجوم نحو رفح المحاذية لمصر خطراً وشيكاً يمكن أن ينشأ عنه ضحايا بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات الحالية، خصوصاً أن رفح كانت الملاذ الأخير لكل من انتقل من الأماكن الساخنة في وسط غزّة وشمالها، وهي تؤوي اليوم حوالي المليون ونصف المليون فلسطيني.
يقاوم نتنياهو مطالبات بايدن، ويقدّم له خططا لإخلاء سكان رفح بنقلهم إلى مخيّمات تبنى لهم على شاطئ البحر غرب غزّة، باعتبار ذلك يوفر وسيلةً آمنة تجنّبهم التعرّض لنيران الحرب، ويتأخّر الهجوم ريثما يقنع الجانب الإسرائيلي بايدن بهذه الخطة، أو يقدّم له بديلا مرضيا، ولكن نتنياهو، من جهة أخرى، يحتاج لتحقيق نصر كامل غير منقوص من دون تأخير كبير، فيما يرزح بايدن تحت ضغوط انتخابية قوية، ويرغب "بتملق" الناخبين المسلمين وإرضاء جمهور أميركي أصبح يرى وحشية إسرائيلية في الحرب. يشجّع وجود حزب الله في الشمال نتنياهو ليجد مخرجا من أزمة الوقت، فهو لا يصعّد الهجوم على لبنان ليرقى إلى إعلان حربٍ مستمرّة، ويكتفي بهجماتٍ متقطّعة، ورغم إخلاء المستوطنات الشمالية حتى لا تشكّل ضغطا عليه، نرى نتنياهو يردّ على هجمات حزب الله بطريقة مركّزة، راح ضحيتها أكثر من مائتي فرد من أعضاء الحزب، بمن فيهم قيادات ميدانية، جاءت إحداها أخيراً ردّا على هجوم صاروخي على صفد، ومن اللافت للنظر أن حزب الله لم يتبنَّ الهجوم، رغم أنه يحمل البصمة التي تطبع عملياته كلها.
من الواضح أن التكتيك الذي اتبعه حزب الله في التعامل مع إسرائيل بعد الهجوم على غزّة يعتمد على الوقوف على الحافة الحادّة، من دون الانزلاق إلى المواجهة الشاملة التي تعيد حكاية العام 2006، عندما واجه جنوب لبنان هجومَ الجيش الإسرائيلي، وقُصفت مواقع حزب الله بقوة، ولم تتوقف الحرب إلا بقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية بالإجماع، وينصّ على ضرورة تراجع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، وهو القرار الذي لم يُنفذ، وأرسيت، عوضا عنه، قواعد غير مكتوبة بين الحزب وإسرائيل. ويحاول نتنياهو إقناع جمهوره بأنه يسعى إلى فرض تنفيذ القرار الدولي، لكن أمر الحرب مع لبنان يبدو أنه ما زال تحت السيطرة، حتى بعد التصعيد الذي قام به أخيراً حزب الله، فأوقع قتيلا وجرحى إسرائيليين في صفد، وردّت إسرائيل بقتل مسؤول كبير من حزب الله، وأعقبه خطاب سريع من نصر الله، كرّر فيه التهديدات وبعض المقولات السابقة، من دون أن يحتوي كلامه ما يوحي بدخول عوامل جديدة على ثوابت سلوكيات حزب الله تجاه إسرائيل.
يكاد خطاب نصر الله، بعد ساعات من مقتل القيادي في الحزب علي الدبس، يشبه خطاب الرابع من يناير هذا العام بعد ساعات من اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، وهذه معطيات تدلّ على أن الهجوم المرتقب على رفح يمكن أن يمرّ من دون قرارات تصعيدية كبيرة من قائد حزب الله، الذي يبدو كأنه سياسيٌ يحاول أن يتجنّب حربا جديدة تشبه حرب 2006، لأنها قد تؤدي هذه المرّة إلى إبعاد الحزب فعليا عن الجنوب، ما قد يجعل المعادلة اللبنانية تختلّ بشدة لغير صالحه، خصوصاً أن إسرائيل تبدو مستعدّة لحرب تزيد مدّتها عن شهر، وهي المدّة التي استغرقتها حرب تموز 2006.