الرائحة لا تزال في أنفي
شاءت المصادفة، ولمرة واحدة في حياتي لم تتكرّر، أن أزور أحد البيوت الصغيرة المتواضعة المقامة على الشاطئ، وحيث تكثر حركة صيد الأسماك، وهي الحرفة التي تدرّ مالا على سكان المنطقة. وقد استوعبتُ، بعد حين، أنني حين دخلتُ ذلك البيت ولم أطق البقاء فيه بسبب انبعاث رائحة السمك منه. وحين سألت سكانه إن كانوا يطهون السمك في الداخل نفوا ذلك، وأكّدوا لي أنهم منذ أيام بعيدة لم يُدخلوا السمك إلى بيتهم على سبيل التغيير، ولكن الرائحة غير المحبّبة لسمكٍ غير طازج وناضج معاً، والتي علقت بأنفي، لم تشدّني للبقاء في البيت إلا مدة قصيرة، حسبما تقتضي واجبات الزيارة والمجاملة، وعكس ما كنت أخطّط لقضاء وقت أطول.
فكّرت كثيرا في السبب الذي يجعلنا نشمّ روائح غير موجودة حين نزور بعض البيوت، ونشمّ روائح مميزة لأشخاصٍ هم لا يشعرون بها، حتى وقعت على ملاحظة صغيرة للباحث الأميركي الحاصل على الدكتوراة في علم الرائحة، كريغ وارين، حيث أشار، وبعد تجارب وملاحظات مستفيضة، إلى أن كل بيتٍ يحملُ رائحةً فريدةً من نوعها يصعب أن تجدها في بيتٍ آخر، فكثيرًا ما تدخلُ بيوتًا لتجد رائحة الطبخ تفوح منه بل رائحة طعام بعينه، أو رائحة دخان السجائر في غير وقت التدخين أو في غياب ربّ الأسرة المدخن، أو رائحة ورق الكتب والحبر في وقتٍ غير وقت القراءة اليومية أو حل واجبات الصغار. ورغم ذلك، أنت تشم تلك الروائح التي تتسم بها البيوت أو توصم حتى أنك تحدّث أقرب شخص إليك بأن رائحة بيت فلان محبّبة إلى نفسك وتشدّك، لأنك تشم رائحة الخشب المعتق فيها، أو أنك لا زلت تشمّ رائحة والدك المتوفى في بيته رغم رحيله منذ سنوات.
يفسّر الباحث كريغ وارين هذه الظاهرة التي تتسم فيها بيوتٌ كثيرة مع ملاحظة أن بعضهم يحبها وبعضا آخر ينفر منها أن الأثاث، بما في ذلك قطع السجاد والأرائك، والستائر، والوسائد والأسرّة والخزائن، دائمًا ما تلتقط روائح تصعُب إزالتها مع الوقت، بما في ذلك رائحة الأشخاص، وخصوصا كبار السن، وأن هذه الروائح الملتقطة تصبح جزءًا من البيت. ومع مرور الأيام، تكتشف أن سكان البيت أنفسهم لا يشمّون هذه الروائح ولا يسقطون مشاعرهم عليها، مثلما يحدُث مع الزوار والضيوف، والذين يستأنسون أو ينفرون منها، والتفسير العلمي لذلك أن كثرة تعرّض أصحاب البيت أو حتى صاحب الحرفة لرائحة معينة تجعل من هذه الرائحة جزءا من إدراك الشخص وتصوّره العقلي نحو البيت أو الدكان أو مكان الحرفة مثلا. وبالتالي، هو يألفها ولا يشمّها في كل مرّة يدلف إلى المكان، بعكس الزائر الذي يزور المكان مصادفةً أو تتكرّر زيارته وترتبط رائحة المكان بأنفه، فيعلن كل مرّة أنه ذاهب لزيارة بيت الجد الذي تعبق أنحاؤه برائحة القهوة المعتقة والمضاف لها كثير من التوابل والبهارات ذات الرائحة المخصّصة للقهوة، مثل الهيل والزنجبيل وجوزة الطيب.
وحين تشدّك "النوستالوجيا"، أو بمعنى أوضح، أنك حين تصبح أسيرا للحنين إلى أيام طفولتك، فأنت تسترجع في عقلك وحنايا روحك ووجدانك رائحة جدّك المسن أو جدّتك التي توفيت، بعد أن بلغت من العمر عتيا، وقد كنت تستمتع في صغرك حين تدسّ جسدك الصغير في فراش أحدهما فيما تدسّ أنفك، خصوصا إلى جوار الكتف الواهنة، فتشم رائحة مميزةً، لا تزول حتى بتكرار استحمام النائم المثقل بأمراض الشيخوخة. ويفسّر العلماء سر الرائحة المميزة للمسنين أنه، ومع تقدّم الإنسان في العمر، وبغض النظر عن العرق أو ثقافة الشخص أو مدى اهتمامه بنظافته الشخصية، يزداد إنتاج إفراز مادة كيميائية خاصة، لها رائحةٌ عشبيةٌ ودهنيةٌ تميّز كبار السن، فما بالك لو امتزجت تلك الرائحة برائحة البيت والذكريات والحب الخالص من محاميي الدفاع الأول في حياتك، وهما الجدّان الحبيبان؟