الرئيس الليبرالي وتلك النبوءة التوراتية
في مقدمة كتابه "لماذا تتحارب الأمم؟: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل" (سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أغسطس/ آب 2013)، طرح الأكاديمي الأميركي ريتشاد نيد ليبو، أستاذ كرسي جيمس و. فريدمان الرئاسي بكلية دارتموث، أستاذ الذكرى المئوية بكلية لندن للاقتصاد، رؤية مثيرة للجدل بشأن علاقة السياسة بالغيبيات، وبرّر مسعاه إلى تتبع البعد الروحي في السياسات المعاصرة بعدم رضاه عن الكتابات عن الحرب، وعن نظريات العلاقات الدولية عمومًا. ويرى نيد ليبو أن هناك غلبة لنموذج اقتصادي ضيق للدوافع البشرية. وفي العصر الحديث، تعرّضت الروح للتجاهل بشدّة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. ويضيف "إنني مقتنع بأنها موجودة في كل مكان، وأنه ينتج عنها الدافع العالمي لاحترام الذات، الذي يتم التعبير عنه في السعي نحو الشرف أو المكانة... لا تمتلك المؤسسات والدول نفوسًا ولا عواطف، لكن الناس الذين يديرون هذه الجماعات أو ينتسبون إليها أو يمتلكونها، وهم يقومون، في كثير من الأحيان، بإسقاط احتياجاتهم النفسية على وحداتهم السياسية؛ ومن ثم يشعرون بالرضا عن أنفسهم، عندما تحقق تلك الوحدات انتصارات أو تبلي بلاءً حسنًا".
يشكّل خطاب بايدن تناقضًا بين مفرادت الخطاب اليميني المحافظ والمواقف المألوفة للحزب الديمقراطي الأميركي
وغياب هذا الفهم "المغاير" أو "المركّب" في ثقافتنا العربية المعاصرة، وبشكل أكثر خطورة في القسم الأكبر من النتاجات الأكاديمية العربية في العلوم السياسية، إحدى نقاط الضعف الكبيرة في وعي النخب العربية بالعالم والعلاقات الدولية، والخلل أكبر حجمًا وأكثر خطرًا في قمة هرم البيروقراطيات العربية. ورغم أن الداء قديم، إلا أن سنوات ما بعد "11 سبتمبر" أحدثت "حساسية مرضية" إزاء أية مقاربة للشأن العام، تأخذ الاعتبارات الغيبية (بمعناها الواسع) في دراسات العلاقات الدولية، وهو خطأ ولدت من رحمه أخطاء كارثية.
وأخيرًا، طالعت في مصادر إخبارية رصينة، مثل موقع سي أن أن العربي ودويتشه فيلله، تحذير الرئيس الأميركي (الليبرالي/ الديموقراطي)، جو بايدن، من أن تهديد نظيره الروسي بوتين باستخدام السلاح النووي يعرّض البشرية لخطر حرب "نهاية العالم"، مستشهدًا بنبوءة هرمجدون. وقال: "يوجَد للمرّة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية تهديدٌ مباشر باستخدام أسلحة نوويّة إذا استمرّت الأمور على المسار الذي تسير عليه الآن". وهرمجدون مصطلح ديني توراتي يشير إلى نهاية العالم، واعتاد العالم أن ترد إشاراتٌ كهذه في الخطاب السياسي لرؤساء محافظين (جمهوريين)، أمثال رونالد ريغان وجورج بوش الابن. وعند كثيرين، يشكّل خطاب بايدن تناقضًا بين مفرادت الخطاب اليميني المحافظ والمواقف المألوفة للحزب الديمقراطي الأميركي معبّرًا عن المكون الليبرالي الأكثر علمانية في أميركا، فالرجل، قبل أسابيع مضت، كان يرفض بضراوة حكم المحكمة الدستورية إلغاء حق الإجهاض للنساء، فضلًا عن أنه كان نائب الرئيس باراك أوباما الذي سمح للمرة الأولى بالتحاق المثليين بالجيش الأميركي.
التلاقي بين قناعات بايدن، وقبله نيوتن وفاسكو دي غاما، يؤكّد حاجتنا إلى فهم أدقّ لفكرة اسمها: "الغرب"
وهناك مصادر عدة لسوء الفهم العربي المزمن لقضية العلاقة المركّبة بين السياسي والغيبي في الواقع الأميركي، أولها أن الليبرالية في الغرب تتسم بسمات غير متطابقة بين شاطئي الأطلنطي، فالليبرالية الأميركية لم تزل تستمد جذورها من خصوصية التجربة "الإنغلوسكسونية" المشبعة بتقاليد الكتاب المقدّس، ما يميّزها عن الليبرالية الأوروبية ذات الأصول المتأثرة بالفلسفة المادية والمثل الثورية الفرنسية. وعليه فإنّ "القيم الأميركية" بالنسبة للأميركيين، محافظين وليبراليين، ذات أصول توراتية، وهي بالتالي لا تضع الدين في سلة "الخرافة"، كما الحال عند معظم الليبراليين الأوروبيين. ومن مصادر سوء الفهم أيضًا أن شيوع فكرة أن التأثير التوراتي في الغرب وليد الإصلاح البروتستنتي، وكما "اكتشف" مثقفون عرب كثيرون، بكثير من الدهشة، عمق الروابط البروتسانتية الصهيونية، وخصوصًا مع ترجمة أعمال باحثين، كغريس هالسل (مؤلفة كتاب "النبوءة والسياسة")، كنا على موعد مع مفاجأتين في 2003: الأولى، عند الكشف عن أوراق خاصة لنيوتن، أحد آباء عصر العلم، تؤكد إيمانه العميق بـ "الفكر الألفي التوراتي"، والثانية في نشر رسالة من المستكشف الإسباني، فاسكو دي غاما، إلى الملكين الإسبانيين (الكاثوليكيين) فرديناند وإيزابيلا لإقناعهما بأن نهاية العالم بعد 155 عامًا، وبأهمية نقل اليهود لفلسطين تحقيقًا لنبوءة نهاية التاريخ التوراتية (مقال: حاتم الطحاوي، مجلة العربي الكويتية)!
والتلاقي بين قناعات بايدن، وقبله نيوتن وفاسكو دي غاما، يؤكّد حاجتنا إلى فهم أدقّ لفكرة اسمها: "الغرب".