الدولة العربية العاجزة والفاشلة
ظهرت الدولة العربية أمام العدوان الإسرائيلي الفاضح على غزّة عارية الجسد مكشوفة الوجه، بتجاعيدها وتورّماتها الصغيرة والكبيرة، فقد بدت عاجزة وضعيفة وتائهة في عالمٍ يتحرّك من حولها من دون أن تقوى على فعل شيءٍ يُذكر، فلا هي امتلكت الإرادة ولا القدرة على وقف حرب الإبادة الجماعية بحقّ المدنيين من النساء والأطفال والخدّج في غزّة، ولا كان يسعها الدفاع عن نفسها وحماية وجودها وأمنها القومي المهدّديْن في الصميم، وليس من تفسيرٍ لذلك سوى مزيج مركّبٍ من الهشاشة والتواطؤ، وهما عند التحقيق وجهان لعملة واحدة، ولعلّ الوجه الأبرز لأزمة الدولة العربية التي نتحدّث عنها هنا، وقوف مصر، البلد الأكبر والأثقل عربيا والمتاخم مباشرة لغزّة، عاجزة عن إدخال الحد الأدنى من مقوّمات الحياة لأهالي غزّة المحاصرين والمقصوفين. وبغض النظر عما إذا كان معبر رفح تحت سيادة مصر على نحو ما، روّج محامو دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي ليتنصّلوا من المسؤولية عن إدخال المساعدات ويلقوها في وجه مصر، أو ما إذا كان المعبر يخضع فعلاً لإشراف دولة الاحتلال، فالمصيبة هنا سيان، في الحالة الأولى يكون التفسير الوحيد هو التواطؤ على محاصرة الفلسطينيين مع سابقية الإضمار والترصد، وفي الحالة الثانية يكون العجز وافتقاد السلطة على الحدود والمعابر، بما يجعل من مقولة السيادة والأمن القومي وعظمة الجيش تتبخّر في الهواء.
لجأت مصر في مواجهة العدوان على غزّة إلى رفع السواتر الإسمنتية وتطويق حدودها بالكامل بزعم أن "أمنها القومي خط أحمر"، وهي كلمة مضلّلة في الحقيقة، لأن مفهوم أمن الدول لا يتعلق بما يجري داخل حدودها فقط، بل يمتدّ حتما إلى ما يجري في الجوار المباشر وما هو أبعد من ذلك، خصوصا بالنسبة للدول ذات الصفة الإقليمية أو الجهوية، مثل مصر، فمن لم يقدِر على مواجهة المهدّدات المحيطة به مباشرة لا يأمن انتقال الحريق إلى داخله أو حماية نفسه داخل حدوده، وهذه بديهية يعرفها طلاب العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وطلاب الأكاديميات العسكرية في المراحل التمهيدية، ولا أتصوّر أن حكّام مصر، بعسكرييهم ومدنييهم، تغيب عنهم هذه الحقيقة بداهة، ولكن لعجز وتخاذل يتجاهلون حقائق التاريخ والجغرافيا، ويلجأون إلى ممارسة "الفهلوة" اللغوية وبيع الشعارات للجمهور.
وصلت الديمقراطية العربية، بشكليها التوافقي وغير التوافقي، إلى طريقٍ مسدود
الكلّ يعرف خصوصية العلاقة التي تربط القوة الأولى في العالم بدولة الاحتلال، بما يعطيها حصانة، ويمنحها قدراتٍ تفوق إمكاناتها المحدودة في أصلها، كما يعرف الجميع أن العدوان على غزّة يجري بشراكة أميركية كاملة، سواء من ناحية التسليح، أم من ناحية التمويل والغطاء والحماية السياسيين. وعليه، لا أحد طالب أو يطالب الدول العربية بتحريك جيوشها والدخول في مغامرات عسكرية ستكون نتائجها معلومة سلفاً، ولن تختلف عن حربي 1948 و1967، ولكن كل ما طُلب منها اتخاذ موقف واضح وحازم في مواجهة العدوان دفاعاً عن وجودها ومصالحها نفسها قبل الدفاع عن الفلسطينيين أنفسهم، ثم تحشيد الساحة الدولية حول موقف عربي وإسلامي موحّد يتزامن مع جهد سياسي وإعلامي ودبلوماسي جامع وواضح، بدل الوقوف في المناطق الرمادية وإعطاء فسحة من الوقت لدولة الاحتلال لتحقيق المهمّة المطلوبة، كما كان يسعها تنسيق جهودها ومواقفها مع القوى الدولية الكبرى الرافضة للعدوان، مثل روسيا والصين والبرازيل، وحتى بعض البلدان الأوروبية نفسها، ودول الجنوب عامة لتكوين جبهة صلبة وضاغطة تنادي بوقف نهائي لإطلاق للنار، وفرض إدخال المساعدات في إطار غطاء عربي إسلامي منحته القمّة العربية الإسلامية.
وحتى نكون منصفين، نقول إن بيان القمّة كان في عمومه أفضل من المتوقع، ليس لأنه جيّد، بل لأن المنتظر أسوأ،، وربما يعود الأمر لوجود دول إسلامية كان موقفها أكثر وضوحا وجرأة من العدوان على غزّة (إيران، تركيا، ماليزيا، باكستان)، ومن ذلك إدانة بيان القمّة الواضحة العدوان ودعوته الصريحة إلى إيقاف الحرب وإدخال المساعدات، ولكن هذا لا يُخفي وجود هوّة شاسعة بين المواقف والإعلانات، وبين التنفيذ والإنجاز، كما أن البيان نفسه كان خليطاً غير منسجم بين مواقف رافضي العدوان ومعسكر التطبيع الذي مرّر كل مطالبه تقريبا في ذيل البيان، ومن ذلك عودة الحديث عن المبادرة العربية واستراتيجية السلام وحلّ الدولتين المنظور، وفي الوقت الذي تتشبث فيه إسرائيل باستراتيجية الحرب.
أظهر العدوان على غزة هشاشة الدولة العربية بالجملة والتفصيل، وهذه حقيقة معلومة قبل العدوان وبعده، ولكنها بدت بصورة مكبّرة وبالألوان أكثر من أي وقت مضى خلال الحرب. هنا تبخّرت مقولات الاستقلال والسيادة وادّعاءات عظمة الجيوش والقدرة على حماية الحدود، ليكتشف العرب أن دولهم عبارة عن أوعية فارغة، ومحميّات مقنعة ومجرد أقفاص حديدية، وحكامها في الغالب الأعم حرّاس حدود وبوابات مهمتهم الرئيسية ضبط السكان المحليين ومراقبتهم على الطريقة التي كانت تقوم بها الإدارات الاستعمارية، حيث تنتدب وجهاء محليين وتمنحهم امتيازات وصلاحيات نيابة عنها لضبط الأهالي وإخضاعهم، من دون أن تتحمّل أعباء معيشتهم وأمنهم، ومن دون عناء الاحتكاك المباشر بالسكان وتحمل أثقالهم.
جرّب العربُ كل أساليب التغيير تقريبا من الانقلابات إلى الثورات الشعبية إلى لعبة الصناديق الانتخابية، وكلها وصلت، بشكل أو بآخر، إلى مأزق وجرى الإجهاز عليها داخليا وخارجيا
راجت مقولة في السوق السياسية العربية على أقلام مثقفين رسميين وشبه رسميين كثيرين وألسنتهم في السنوات الأخيرة، عنوانها "بلدي أولا"، من قبيل مصر أولا والأردن أولا ولبنان أولا والسعودية أولا، وهكذا، وهي مقولة تبدو في ظاهرها معبّرة عن الحمية الوطنية، ولكنها في عمقها تخفي محاولة التنصل من عبء القضية الفلسطينية ومجمل قضايا المحيط العربي، بل هي في عمقها إهدار لما تبقّى من مقوّمات الاستقلال والسيادة الوطنيين، وتسليم طوعي بسيادة أميركا وإسرائيل أولاً وآخرا.
الحقيقة المرّة واستنادا إلى معطيات الجغرافيا السياسية أنه لا توجد أي دولةٍ عربيةٍ قادرة فعلا بمفردها على حماية نفسها وتحصين الحدّ الأدنى من مقوّمات سيادتها من دون التحصّن بالإطار العربي الأوسع، ومن دون مواجهة التحدّي الصهيوني الذي يتعقب الجميع، وهذا ما يفسّر إصرار الأميركان على تحويل القضية الفلسطينية بأبعادها العربية والإسلامية، وحتى الدولية، إلى مجرّد مسار تفاوضي ثنائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بحيث يجد الفلسطيني نفسه يتحرّك في العراء ومن دون غطاء عربي إسلامي مقابل مفاوض إسرائيلي يجلس خلفه، وعلى جانبه الأميركي والأوروبي، بل حلف شمال الأطلسي ببوارجه وأسلحته.
والسؤال الذي يتردّد في الأذهان هنا: طيب هذا تشخيص لمشكلات معلومة بالبداهة، ولكن ما العمل؟ وكيف الخروج من هذا النفق الكبير والمظلم الذي أوقعت فيه الدولة العربية نفسها وأوقعتنا جميعا معها فيه؟
حتى نكون صرحاء مع أنفسنا وقرّائنا، لا أحد منا يستطيع تقديم الوصفة السحرية للعلاج لوضع تاريخي وجيواستراتيجي مركّب ومعقّد كحال الدولة العربية، لأن المسألة لا تتعلق بالفكر والإرادة الذاتية، بقدر ما تتعلق بأثقال التاريخين القريب والبعيد، وبمعطيات الجغرافيا وتوازنات السياسة المعقدة ببعديْها الإقليمي والدولي في هذه الرقعة المنكوبة من العالم التي تسمّى العالم العربي.
بات العالم العربي يتقلّب بين نظام الحماية ونصف الحماية الأجنبية مع عودة القواعد العسكرية إلى مياهه ويابسته وأجوائه
ما أعرفه أن الدولة العربية في وضعها الراهن بالغة الهشاشة والضعف، وهي عاجزةٌ عن تحصين الحدّ الأدنى من مقوّمات السيادة، والأخطر من ذلك تبدو عصية على التغيير والتعديل نحو الاتجاه الصحيح، بحكم تكوينها الجيني، فقد جرّب العربُ كل أساليب التغيير تقريبا من الانقلابات إلى الثورات الشعبية إلى لعبة الصناديق الانتخابية، وكلها وصلت، بشكل أو بآخر، إلى مأزق وجرى الإجهاز عليها داخليا وخارجيا.
وصلت الديمقراطية العربية، بشكليها التوافقي وغير التوافقي، إلى طريقٍ مسدود، لأنها تفرز في الغالب قوى غير مقبولة أميركيا وإسرائيليا، فيتم الإجهاز عليها قبل أن تستوي على سوقها، والثورات جرى إجهاضها وضربها بدفعها نحو الحروب الأهلية، أو حكم العساكر المغامرين. ولا نحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ للتدليل على فشل الانقلابات في نسخها القديمة والجديدة، في مصر والسودان وليبيا واليمن وغيرها، بل تزداد الدولة العربية، ومع تراجع شرعيّتها وارتفاع منسوب أزماتها وأعطابها، توحشا وعنفا لا نظير له في دول العالم. وهذا لا يعني زهدا في الديمقراطية، بل فهما للسياق والحال والمآل، فالديمقراطية كآلية لإدارة شؤون الحكم وما تعنيه من توزيع للسلطات وحرية تعبير واعتقاد، واستقلالية قضاء وإعلام وغيرها كلها جيّدة ومطلوبة، ولكنها لن تكون الحل المعجز، فهي نتيجة مسار أكثر من أن تكون المدخل المناسب للتغيير، خصوصا في وضع منفجر ومسكون بأزمات وشياطين كثر مثل العالم العربي.
الوحيد الواضح أنه لا يمكن للمقاربة المحلية القطْرية أن تؤدّي إلى نتيجة، وهذا ما بيّنته تجربة الربيع العربي. ولذلك نحن في حاجة إلى مقاربة عربية مشتركة تعتمد أساسا على الدول العربية المركزية، علها تجرّ معها في ما بعد الدول العربية الأصغر نحو وجهة التغيير المطلوبة. والحقيقة التي يجب أن تقال من دون مواربة إن العالم العربي بات يتقلّب بين نظام الحماية ونصف الحماية الأجنبية مع عودة القواعد العسكرية إلى مياهه ويابسته وأجوائه. ولذلك يحتاج للعودة مجدّدا إلى مشروع تحرّر أفقي شامل تكون الديمقراطية جزءا منه، وليست هي المبتدأ والمنتهى، والله أعلم.