الدولة التونسية عاجزة فمن ينقذها؟
كلما حاولتُ التطرّق إلى جوانب مضيئة في الحالة التونسية، تأتي أحداثٌ تدفعني نحو الجانب المظلم من المشهد الغالب، حيث تتهاطل الأسئلة بدون أجوبة، ويبرُز في الخصوص عجز الدولة عن معالجة مختلف المسائل والملفات المطروحة بحدّة منذ أكثر من سنة. مع ذلك لم يتغير الخطاب الرسمي، ولم يطفُ على السطح أسلوبٌ مختلفٌ لمخاطبة التونسيين وطمأنتهم عن مستقبل البلاد والعباد.
تجلّى هذا العجز بشكل أكبر في الأسابيع القليلة الماضية. تجمّعت المخاطر دفعة واحدة، وهو ما أوقع الحكومة في دوّامة، أينما التفتت اصطدمت بتحدّياتٍ لا قبل لها بحلها أو مواجهتها. فملف النفايات عاد لينفجر من جديد في وجه الحكومة، وتحديدا في ولاية صفاقس، المدينة الثانية بعد العاصمة. اختنق الناس، وتحوّلت حياتهم إلى مأساة جماعية، حتى ظنّوا أن الدولة قد تخلت عنهم، فتظاهروا في الشوارع، واعتصموا في الساحات، وفكّرت منظمات المجتمع المدني المحلية في مقاطعة الانتخابات البرلمانية موقفا منها ضد الدولة، بحجّة أن ما حصل في مدينتهم أشبه بـ"جريمة دولة".
وتكرّر رد الفعل في محافظات أخرى، من بينها جرجيس، التي فقدت مجموعة من أبنائها غامروا هروبا من الواقع المؤلم فابتلعهم البحر، وضاعت جثث بعضهم بين الأمواج. وبدل أن يواسيهم المسؤولون عن أجهزة الدولة، ويساعدوهم على البحث عن أبنائهم، تخلّوا عنهم، أو هكذا فهموا الأمر عندما لم يتلقوا الإجابة. صمتت السلطة خوفا من مواجهة الواقع الأليم. وعندما تختفي الدولة في حالة الأزمات، يعني ذلك أنها تتخلّى عن مواطنيها.
تراكمت الملفات، ما جعل البلاد وكأنها تنحدر بسرعة نحو انفجار اجتماعي كبير. في هذه اللحظة، يقول رئيس الدولة: "من يتحدّث عن إمكانية اسقاط الدولة فمكانه هذه القمامة ومكانه مزبلة التاريخ". يدلّ هذا القول على إحساسه، بناء على ما يصل إليه من تقارير أمنية تصف الغضب الذي تتسع رقعته يوما بعد يوم، أن الحالة يمكن أن تؤدّي إلى أوضاعٍ يصعب التحكّم فيها. وما يخشاه الرئيس ومساعدوه أن تستغلّ المعارضة هذا الاحتجاج المتزايد، وتدفع به نحو خلخلة النظام، ما قد يؤدّي إلى احتمال تغيير السلطة، وإبعاد الرئيس قيس سعيّد عن الحكم.
ما ذهب إليه الرئيس ليس سيناريو وهميا. هناك من يفكّر في مثل هذا الاحتمال، ويعمل على تحويله إلى فرصةٍ من أجل تغيير موازين القوى. وهذا أمر تعتبره المعارضة عملا مشروعا في سياق الصراع السياسي، وهي فعلا تريد استثمار هذه الفترة بالذات لتوجيه رسائل إلى الداخل والخارج، مضمونها أن السلطة القائمة غير قادرةٍ على إدارة شؤون البلاد، وأن التونسيين غير راضين عنها، وأن احتكار الحكم بهذه الطريقة هو "عمل غير شرعي". والمعارضة ضمن السياق الراهن تريد أن تبلغ هذه الرسالة في هذه الفترة الحسّاسة، حيث تحتضن تونس مؤتمر الفرنكوفونية، وأنظار جزء هام من العالم متّجهة نحو هذه الرقعة الصغيرة التي يتجمّع فيها عشرات من رؤساء الدول والحكومات، للنظر في مستقبل الفرنكوفونية التي تعدّ الديمقراطية أحد مرتكزاتها.
تعمل المعارضة على إبلاغ صوتها، وتبحث عن الفرص لإحراج الرئيس، وتعتقد أن ذلك جزء من دورها. لكن ما يجري حاليا في تونس ليس من صنع هذه المعارضة الضعيفة، والمنقسمة، والتي تفصلها عن الناس مسافاتٌ وتباينات. ما يجري ناتجٌ عن عجز السلطة، وسوء إدارتها شؤون البلاد. وما تقوم به من انتهاكات لن يفيدها في هذه المرحلة بالذات، بل له نتائج عكسية، وهو ما يتمنّاه خصومها الذين يوظفون الانتهاكات لدعم وجهة نظرهم القائمة على سحب الشرعية من النظام، وتقديمه في صورة "السلطة المستبدّة".
ما يجري في تونس على غاية من الأهمية، فهو من جهة يمثل جولة جديدة من صراع الرئيس سعيّد مع خصومه المختلفين في الشكل والمضمون. ومن جهة أخرى، سيساعد هذا الصراع على معرفة مدى قدرة السلطة على حماية نفسها من السقوط. لهذا الدولة عاجزة وتبحث عاجلا عمّن ينقذها ماليا وسياسيا.