الخلطة التي أحدثت الطفرة
على الرغم من الهزيمة العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش)، وتراجع الهالة الإعلامية والنفسية التي نسجها حول نفسه، خلال أعوام الصعود والانتشار، إلّا أنّ هنالك ظواهر عديدة تستحق المراجعة والقراءة المتأنية لما أنتجه التنظيم من طفرة كبيرة على صعيد التجنيد ونظرية العمل، بخاصة في مجال الدعاية الإعلامية والنفسية والقفزة الهائلة التي حققها في مجال الإعلام في سياق تحوّلات التيارات الجهادية عموماً.
يخصص الباحث الأردني، مروان شحادة، أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه للبحث في أسرار الخطاب الإعلامي لتنظيم داعش، وهي الأطروحة التي صدرت أخيراً في كتاب من خلال معهد السياسة والمجتمع في عمّان بالتعاون مع الدار الأهلية للنشر والتوزيع بعنوان "أسرار إعلام وأيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية". وفيه يقدّم شحادة بحثاً قيّماً ومهماً على أكثر من صعيد؛ سواء التعريف بالمؤسسات الإعلامية التي حملت خطاب التنظيم وقدّمت خطابه الأيديولوجي وروّجت الدعاية السياسية والنفسية له، أو حتى على صعيد الشخصيات البارزة التي قامت بدورٍ رئيسٍ في هذا المجال أو حتى البناء الفكري لخطابه الإعلامي والأيديولوجي، وأخيراً الاستراتيجيات والتكتيكات التي تبناها التنظيم في هذا المجال.
صحيحٌ أنّ هنالك كمّاً كبيراً من الدراسات والأبحاث والتقارير الأكاديمية والإعلامية والأمنية التي صدرت وأنتجت في تشريح "إعلام داعش"، لكنّ القيمة الرئيسية لهذا الكتاب أنّه يضعها في إطار متكامل، نفهم من خلاله لماذا وكيف تمكّن هذا الجهاز الإعلامي من إحداث اختراقٍ كبيرٍ ونوعي حقق من خلاله جملة كبيرة من الأهداف غير المسبوقة، ليس فقط على صعيد "التنظيمات الجهادية"، بل أيضاً حتى على مستوى العالم العربي، فأصبح بها متفوقاً، على الرغم من الحظر والملاحقة الأمنية المستمرة لـ"خلاياه الإعلامية" من الوصول إلى الملايين، وتجنيد عشرات آلاف من الشباب التائه والغاضب والمتحقن. وعلى الطرف الآخر، بثّ الرعب في قلوب الملايين وتدويخ المؤسسات الإعلامية العالمية والعربية في مواجهة روايته المخيفة من دون القدرة على اللحاق بها.
هنا بيت القصيد في قراءة السرّ وراء "جاذبية داعش"، بالرغم من الدموية والعنف والإرهاب الذي وسم شخصيته وأفعاله؟ وهو الذي يدفعنا إلى السؤال المهم، وربما لم تطرحه السياسات العربية والدولية بالصورة الصحيحة: لماذا نجحت ماكينة التنظيم الإعلامية بإمكانات محدودة، بالرغم من المطاردة والملاحقة، وفشلت المليارات في التأثير بعقول أعداد كبيرة من الشباب العربي؟ ما الخلطة التي أحدثت هذه الضجّة أو الطفرة؟
يقودنا كتاب شحادة إلى حوار بيننا وبين أنفسنا؟ كيف تمكّنت بعض الكاميرات والمقالات والأفكار إلى العبور إلى لغات العالم كله؛ العربية والإنكليزية والفرنسية والأوردية وغيرها؟ بل إلى عقول هذا العدد الكبير من الشباب العربي والمسلم في الشرق والغرب وقلوبهم؟ ما سرّ ذلك الخطاب الذي عجزت عنه الأنظمة والسياسات العربية، ودفع حكومات العالم إلى إنفاق الملايين لملاحقته، بينما نجد في كل دولة عربية عشرات المؤسسات الإعلامية المتنوعة والمتعدّدة التي عجزت عن تقديم "خدمة" مماثلة للجمهور، بل حتى لأنظمتها؟
أيّ مفارقة تلك التي أحدثها "إعلام داعش" وتُستدعى اليوم، بعد تدمير "دولته" إلى القراءة والمراجعة والتفكيك والتفكير؟ بلا شك، اتكأ "داعش" على بناء خطاب أو رواية خطيرة وظفت الظروف السيئة ومشاعر الغضب والتهميش والإقصاء والأوضاع الاقتصادية وكلام الفساد والفشل في مساراتٍ متعدّدة وزاوجها مع أفكار طوباوية علّبها من التراث والتاريخ الذي وجد فيه خزّاناً كبيراً للتلاعب بعقول كثيرين ومشاعرهم باسم الدين والخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية، إلّا أنّ ذلك لا يكفي، وإلّا كانت المعارضات العربية العاجزة في الشارع اليوم أقدر منه على تحقيق ذلك من خلال خطاباتٍ أكثر واقعية ومنطقية، ولا تتسم بالدموية والعنف الذي تلبّس رواية التنظيم والصورة التي صنعها عن نفسه!
إذا تجاوزنا الخطاب إلى العاملين، البشري والتكنولوجي، فإنّ هنالك الكثير الذي يُخبرنا به الكتاب الجديد لعدد قليل ومحدود من الأشخاص، وقفوا وراء شاشات الكمبيوتر وخلف ثلاث كاميرات أو أربع، وقلبوا العالم رأساً على عقب، كيف فعلوا ذلك؟ ولماذا لا تستطيع الدول والحكومات والنخب المثقفة والسياسية أن تقوم بشيء مماثل، بالرغم من الفارق الكبير بحجم الإمكانات؟