"الحوت" ... أو وجعُ الاختلاف
فيلم "الحوت" (2022)، من إخراج دارِن آرنوفسكي وبطولة برندان فريزر (فاز بأوسكار أفضل ممثل)، مقتبسٌ عن نص مسرحيّ يحمل العنوان نفسه للكاتب صمويل د. هانتر الذي كُلف بكتابة السيناريو أيضاً. القصة تدور خلال بضعة أيام، في المكان المغلق نفسه، أي شقّة تشارلي، وهو رجل في متوسّط العمر، يعاني من سمنةٍ مفرطة (272 كلغ) تمنعه من الخروج أو من التحرّك من دون الاعتماد على عكاز أو كرسي متحرّك. تمرّ صلة تشارلي مع العالم الخارجي عبر شاشة حاسوبه، بل يدرّس الإنكليزية والكتابة لمجموعة طلاب عبر تقنية الزوم، من غير إظهار صورته، في حين تنحصر دائرةُ أصدقائه وأقربائه بالممرّضة ليز (هونغ تشو)، صديقته وشقيقة حبيبه السابق الذي مات منتحراً بسبب ما عاناه من عقدة ذنبٍ وضغط من عائلته المتديّنة التي تنتمي إلى كنيسةٍ محافظة. ليز تهتم به وتحذّره من قصور في القلب يزداد ويتهدّده بالموت. وتشارلي يدرك أنه، برفضه دخول المستشفى وباستمراره في استهلاك كميات هائلة من الطعام، إنما يتّجه بخطىً حثيثة نحو هلاكه. ثم إنه لا يريد أن يصرف على علاجه المالَ الذي يدّخر لمستقبل ابنته، إيللي، ابنة السبعة عشر عاماً، المتمرّدة والعدائية التي تعترف له أمها، يائسة، أنها شرّيرة تدمر وتخرب كلّ من وما تقترب منه. يرفض تشارلي الأمر، فهو لا يرى في الآخرين إلّا الطيبة والخير، وأمنيته الأخيرة إعادة الصلة بهذه الابنة التي تركها وهي في عمر الثامنة، والتأكّد أنها ستكون بخير بعد رحيله.
لكن، وكما تميل السينما الأميركية إلى اعتماد النظرة الأخلاقية إلى الأمور، لا بدّ من أن يكون هذا "الحوت" هائل الحجم، الذي يرينا إياه المخرج بطريقة تثير الاشمئزاز (مظهره، تعرّقه، لهاثه، طريقة ابتلاعه كميات هائلة من الطعام، تقرّحات جِلده)، بقدر ما تثير فينا تعاطفاً وشفقة، لا بدّ أن يكون طيّباً وخيّراً في الأصل. فهو القادر على تفهّم الآخرين وتقبّل أخطائهم وزلّاتهم، وهو المعلّم الذي يغذّي في طلابه نزعة الأصالة وقول الحقيقة مهما غلا ثمنُها. لكنّه أيضاً العاجز عن إظهار صورته الحقيقية للآخرين، أو عن مسامحة نفسه على ارتكابه خطأ في ماضيه يُشعره بذنبٍ يسعى يائساً إلى التطهّر منه. طوال الفيلم، يقرأ تشارلي ويكرر نقداً لقصة "موبي ديك"، رائعة هيرمان ملفيل، إلى أن ندرك أنّ إيللي المراهقة هي كاتبته، وأنّ الوالد قد اكتشف، بفضله، موهبةً فيها وفضائل ومزايا لا تراها فيها البقيةُ. لذا يريد، قبيل مغادرته هذا العالم، إقناع صغيرته بأنّها فريدة، وجميلة من الداخل، وقادرة على جعل حياتها قصة فرح ونجاح.
والنظرة الأخلاقية المشار إليها أعلاه مردّها، ولا ريب، كيفية قراءة الوجع الذي يخلفه الاختلافُ في كلّ منا، سواء تعلّق الأمر باختلافٍ في المظهر (السُمنة المفرطة)، أو في الهويّة الجنسية (المثلية)، أو في سواها من الفروقات والتمايزات التي تتسبّب في إقصائنا وعزلنا وتهميشنا، غافلين عن الضرر الذي يمكن أن يُخلفه ذلك في نفسيات المُسَاء إليهم، أو عن كيفية تأثيره على سلوكاتهم وعلاقتهم بذواتهم وبالآخرين. ولا بدّ هنا من ذكر مسرحية "ريتشارد الثالث" لشكسبير كمثال، حيث يُصوَّر الملكُ السفّاح ذا عاهة ومنظر قبيح ورغبة بالانتقام من العالم بأسره، لما عاناه بسبب تشوّهه واختلافه. وبالفعل، قد تقود كلُّ نظرة احتقار ونفور وتمييز، وكل تصرّف أو موقف مزدرٍ الاختلاف، إلى تنامي رغباتٍ دفينة بالانتقام، وبردّ الأذيّة مضاعفةً. لذا، من نافل القول تكذيب الادّعاء أن قدر الضحية الطيّبة أن تزداد طيبة وتسامحا عند تلقّيها الظلم، بل إنها فكرة ينبغي اتّهامها بالتأسيس لمزيد من الإجحاف والأذية. أجل، نحن نحبّ أن تبقى الضحية طيّبة مهما ألمّ بها، لأننا نودّ أن نؤمن في أعماقنا بأن الشرّ يضاعف الخير. لكن وللأسف، هذا ليس صحيحاً، وقد تكون نصوص شكسبير ودوستويفسكي وتينيسي وليامز وسواهم من كبار الكتّاب الذين تناولوا دهاليز النفس البشرية وأوجاعها، إذ تكون مختلفة، خيرَ دليلٍ على أنّ الشرّ لا يستدعي الخير، بل العكس هو ربما الأصح.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى عظمة أداء برندان فريزر دور حوتٍ بشريّ عملاق، يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو غارقٌ في لحمه وندمه وأسفه على ما فات.