الحركة الصهيونية وإسرائيل .. صراع المركز والطرف

11 أكتوبر 2021
+ الخط -

شكّل الاستيطان في فلسطين جوهر الحركة الصهيونية، وأخذ خلال فترة الانتداب البريطاني طابعًا مكثفًا ومنظمًا لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية في بناء دولة اليهود. وعملَ، ليس على تهويد الأرض فحسب، بل على تهويد العمل أيضًا، فالعنصر العربي الذي كان يعمل في فلسطين شكّل خطرًا على المشروع الصهيوني. ومن هنا، كان شعار "العمل العبري" يهدف إلى إنتاج مجتمع غير متداخل مع المجتمع الفلسطيني، حتى لا يتم ارتباط الأول بالثاني، في انتظار الفرصة السانحة لتنفيذ رؤية تيودور هرتزل التي صاغها في نهاية القرن التاسع عشر من ضرورة طرد السكان العرب من الأراضي التي يستولي عليها اليهود.
على الرغم من أن عدد اليهود لم يصل إلى ثلث عدد السكان في فلسطين عام 1948، إلا أنهم حصلوا على أكثر من 56% من مساحة فلسطين التاريخية، في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 1947. ومع تسارع التطورات السياسية في الأمم المتحدة التي تلت ذلك العام وما بعده، أسّست المنظمة الصهيونية "مجلسا وطنيا" كان بمثابة برلمان للدولة الصهيونية القادمة، و"إدارة وطنية" كانت بمثابة حكومة، وتزعّم ديفيد بن غوريون كلا من اللجنة التنفيذية الصهيونية واللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية والإدارة الوطنية. مع حلول عام 1948 وانتهاء الانتداب البريطاني، كانت العصابات الصهيونية جاهزةً لتنفيذ مخططاتها بطرد الفلسطينيين من خلال المذابح والاعتداءات ضد الفلسطينيين. وكشف المشروع الصهيوني عن نفسه بشكل نهائي، استيطانيا اقتلاعيا إجلائيا وعنصريا.

أراد بن غوريون أن تصبح إسرائيل مركز العمل الصهيوني، وأن تقوم المنظمة الصهيونية العالمية بدور مكمل للدولة

وكان لقيام دولة إسرائيل أثره الكبير في إيجاد وضع جديد دفع العلاقات بين المنظمة الصهيونية العالمية وإسرائيل إلى أزمة، بتأكيد كل منهما على الدور المركزي الذي يجب أن تلعبه، وقد استمرّت هذه الأزمة متصاعدة حتى 1968. وبقيام إسرائيل، تحقق الهدف المركزي للمنظمة الصهيونية، كما حدّده مؤتمر بازل في 1897. دفع الواقع الجديد إلى ولادة اتجاه في إسرائيل يتقدّمه بن غوريون، يقول إن المنظمة الصهيونية العالمية بعد قيام إسرائيل فقدت مبرّر وجودها. ووقف بن غوريون بقوة ضد مركزية دور المنظمة الصهيونية العالمية، فهو اعتبر في كتابه "بعث إسرائيل ومصيرها" "أن الحركة الصهيونية نجحت في إيجاد الدولة، وأن إسرائيل الآن هي الأداة الوحيدة لتحقيق حلم الصهيونية، والحركة الصهيونية لن تحسد الدولة، لأنه لا يوجد أب يحسد نجاح ابنه.. وأن واجب الحركة الآن أن تأخذ مكانها الطبيعي بين الأقليات اليهودية خارج فلسطين". أراد بن غوريون أن تصبح إسرائيل مركز العمل الصهيوني، وأن تقوم المنظمة الصهيونية العالمية بدور مكمل للدولة، ورأى أن الوقت قد حان للتخلص من الصهيونية التي وصفها بأنها "أصفاد وأغلال تقيد الدولة".
شبّه بن غوريون المنظمة الصهيونية العالمية بـ"السقالة" التي لا بد منها في مرحلة بناء المشروع الصهيوني، أما وقد اكتمل البناء بقيام إسرائيل، فلم يعد لها لزوم ويجب تفكيكها. وكان موقف رئيس المنظمة، ناحوم غولدمان، على عكس موقف بن غوريون، الذي اعتبر أن بناء إسرائيل لم ينته بعد، وأنها ما زالت تحتاج السقالة. يكتب غولدمان في مذكراته: "لدى إعلان قيام دولة إسرائيل ومجيء ديفيد بن غوريون على رأس حكومتها، جرى حرمان المنظمة الصهيونية من كل نفوذ في السياسة الإسرائيلية". ونادى غولدمان بعدم الفصل بين السلطات والصلاحيات بين حكومة إسرائيل والمنظمة الصهيونية العالمية. وبرّر ذلك على أساس الوضع الخاص للدولة اليهودية قائلًا: "مع أنني لم أطالب أبدًا، كما فعل عديد من زملائي، بإعطاء اللجنة التنفيذية الصهيونية صوتًا في تعزيز السياسة الإسرائيلية". وطلب عدم الفصل بين السلطات والصلاحيات بين حكومة إسرائيل والمنظمة الصهيونية العالمية. وبرّر ذلك على أساس الوضع الخاص للدولة اليهودية، معلقاً: "ما زلت أعتقد أن الإصرار على السيادة المطلقة لإسرائيل، رغم ما يكتنفه من ضرورة شكلية، لا يتصف بشيء من الحكمة عندما يتم تطبيقه على السياسة العملية". وقد طالب بأن تمنح المنظمة الصهيونية صوتًا استشاريًا في شؤون إسرائيل الحيوية على الأقل، من دون أن ينجح في ذلك.

بقيت المنظمة الصهيونية تتراجع أمام إسرائيل، إلى أن أصبحت أداة في يدها، بما يحقق لإسرائيل مبتغاها

لم ينجح غولدمان في إثبات دور للمنظمة الصهيونية، تحت حجّة أن المشروع الصهيوني لم يُستكمل بقيام إسرائيل، وأنها مجرّد محطة أولى يجب استكمالها، ولكن كثيرين راوا أن لاستمرار المنظمة الصهيونية في عملها دورًا كبيرًا في ترسيخ أركان إسرائيل. وكذلك لم ينجح بن غوريون في التخلص نهائيًا من المنظمة الصهيونية، لكنه نجح في تحويلها إلى أداة في يد الحكومة الإسرائيلية، ونجح في فرض مركزية إسرائيل في العمل الصهيوني، وحصر عمل المنظمة الصهيونية العالمية بمساعدة دولة إسرائيل، فقد تم تقاسم العمل بين الحكومة الإسرائيلية والمنظمة العالمية، من خلال تأكيد كل منهما على تعلّقها بالمهمة الصهيونية الرئيسية، فإن الأولى تأخذ على عاتقها مسألة توجيه الحركة الصهيونية بشكل حاسم. وفي المقابل، إعلان زعماء المنظمة الصهيونية العالمية تأييد الحكومة الإسرائيلية الذي أصبح شرطًا أساسيًا لنجاح جهودهم في بناء الصهيونية. وتحقّق في ضوء هذا التطور ذلك المفهوم الذي تبنّاه هرتزل عن "الوكيل المفوض"، فأصبحت حكومة إسرائيل "وكيل" اليهود، بينما تمثل المنظمة الصهيونية أكثرية "الشعب المفوّض".
خلال الصراع، بقيت المنظمة الصهيونية تتراجع أمام إسرائيل، إلى أن أصبحت أداة في يدها، بما يحقق لإسرائيل مبتغاها، وللصهيونيين في الخارج "راحة الضمير"، من دون أن يلتزموا إملاءات مقولاتها وقراراتها. وظلت المنظمة الصهيونية تقوم بمهماتٍ في إسرائيل والخارج مع نوع دعم الهجرة، والتمويل، والتثقيف، الدعم السياسي، والنشاط الإعلامي.
وضع المؤتمر الصهيوني السابع والعشرون في يونيو/حزيران 1968 حدًا لهذا الصراع، ففي جميع المؤتمرات السابقة أطلّت المفاهيم المتصارعة لدى المعسكريْن بأشكال جديدة. فمن جهةٍ، أكّدت المنظمة ضرورة تجديد حيويتها المفقودة منذ تأسيس الدولة، مشدّدة على أهمية استمرار يهود المنفى وازدهارهم، ليشكلوا "الدرع الواقي لإسرائيل" و"المعين المغذّي لها في الخارج" ضمن هدف شامل عنوانه "تأمين بقاء الشعب اليهودي". ومن جهة ثانية، أصرّت إسرائيل على أن القضية الأساسية ليهود العالم، وللمنظمة الصهيونية بالتالي، تقوية إسرائيل بالهجرة إليها، لا بتهجير الأموال إليها فحسب، وعلى أساس "مركزية إسرائيل" في كل الأمور، لأن ذلك هو الكفيل بضمان "بقاء الشعب اليهودي في العالم أجمع". حسم المؤتمر الصهيوني السابع والعشرون هذا الصراع على قاعدة "مركزية إسرائيل" عندما نصّ برنامجه على أن "أهداف الصهيونية هي وحدة الشعب اليهودي، ومركزية أرض إسرائيل، وجمع الشعب اليهودي في وطنه التاريخي عن طريق الهجرة من كل البقاع".

وصلت الصهيونية إلى نهاية الشوط بوصفها حركة هجرة عالمية إلى إسرائيل، ويجب إعادة النظر في الأيديولوجيا الصهيونية

منذ خسارة غولدمان للصراع، بدت المنظمة راضية تمامًا عن دورها تابعا لإسرائيل، مهمتها تقديم المساعدات المالية والبشرية والإعلامية والسياسية عبر أجهزتها وأجهزة الوكالة اليهودية الموسّعة الجديدة التي تم توسيعها في العام 1972، من دون أن يطمح ذلك التابع إلى موقع الندّ المشارك لإسرائيل في المسؤولية. وقد ظهرت في إسرائيل، منذ الستينيات، وجهة نظر تحاول إعادة النظر بالصهيونية وبطبيعة إسرائيل، وقد عبّر يوري أفينزي، في وقت مبكر، عن وجهة النظر هذه، معتبرًا أنه "مع استقلال إسرائيل ماتت الحركة الصهيونية ميتة طبيعية، وهي تحيا حياة وهمية (كتب هذا الكلام في أواسط الستينيات) تستخدم لجمع المال وتعبئة الرأي العام إلى جانب إسرائيل". وقد وصلت الصهيونية إلى نهاية الشوط بوصفها حركة هجرة عالمية إلى إسرائيل، ويجب إعادة النظر في الأيديولوجيا الصهيونية التي تقوم على أساس أن الصهيونية التي استطاعت، في النصف الأول من القرن العشرين، تجسيد نفسها في دولة، أفرزت العدوانية والعنصرية من أجل استكمال هذا المشروع الذي أخذ يصطدم بعوائق موضوعية وضعت الأيديولوجيا الصهيونية في موقع الشك، والشك في قدرتها على استكمال مشروعها، كما يتمنّى غلاتها.
تعيش إسرائيل اليوم تفوّقها الأكبر على دول المنطقة، ما عزّز الاتجاهات الأكثر يمينية وشعبوية فيها، والتي تدير الواقع القائم، بوصفه الصيغة الأمثل للسلام الذي تريده، بوصفها قوة كبرى متحكّمة في المنطقة، في ظلّ ضعف الآخرين، واستجداء بعض العرب قبولها لهم بوصفهم حلفاء، عبر التطبيع معها. وهذا ما يزيد من خيلاء القوة عند إسرائيل، ويجعلها أكثر تعنتًا، باعتبار أن السلام يأتي عبر قوتها وضعف الآخرين. من دون إدراك أن هناك حدودا للقوة، وهذا ينطبق على الجميع، وإسرائيل ليست استثناءً.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.