الحرب في كولومبيا وراهن اتفاق السلام ... وفلسطين
العدالة والكرامة الإنسانية هما أساسا الحل للصراعات في فلسطين وكولومبيا وفي جميع مناطق الصراع الأخرى. .. قلت لأحد قيادات الثوار في كولومبيا الذي ألقى سلاحه بعد 15 عاماً من القتال ضد القوات الحكومية بموجب اتفاق السلام الذي جرى توقيعه عام 2016، وذلك في مكتبه المتواضع في العاصمة الكولومبية بوغوتا. ردّ: فلسطين .. ثم اغرورقت عيناه بالدمع، ونهض من مكانه، وتقدّم مني وعانقني، ثم وضع رأسه على كتفي وبكى. كان هذا هو الدرس الأول الذي استوقفني خلال زيارتي، أخيرا، كولومبيا للاطلاع على تجربة الصراع هناك، وبشكل خاص، فرص تطبيق اتفاق السلام الذي مرّ عليه أكثر من ست سنوات. المبادئ والقيم، كالعدالة والكرامة والمساواة، هي اللغة المشتركة لجميع الصراعات أينما وجدت، وهي الكفيلة بتجميع الناس حولها وبديمومة حلول الصراعات على المدى البعيد، وليست التسويات التي تُبنى على "الصفقات" و"التنازلات"، المتبادلة او المنفردة، التي يلجأ إليها السياسيون، للوصول إلى سلام يبدو في معظمه مزيفاً. لم يسبق لهذا "الثائر السابق" زيارة فلسطين، ولم يلتق أي فلسطيني من قبلي، ولكن عدالة القضية الفلسطينية هي اللغة التي أجادها منذ طفولته، ومن دون أن يتعلمها في مدارس تعليم اللغات، وارتبطت بوجدانه، من دون ان يقرنها بمصالح وحسابات سياسية متغيرة.
المليشيات والمستوطنون
مثل مناطق صراعاتٍ عديدة، نُواجَه دوماً، أهل الصراع أنفسهم، بطلب تحديد نقطة البداية التي تختلف الأطراف عليها، ويتم تعريفها عادة حسب ارتباطها بمصالح كل طرف، ومدى دعمها روايته. عموماً، يتم التأريخ لبداية الصراع في كولومبيا عام 1964، الذي تشكّل فيه تنظيم فارك (FARC) المعادي للحكومة. غير أنه لا يمكن فهم الصراع بمعزل عن الأحداث التي سبقت ذلك، ومهّدت لمثل هذا التحول، وبالتحديد اغتيال المرشّح الرئاسي اليساري الليبرالي الكاريزماتي، جورج جايتان (Jorge Gaitan) عام 1948، والذي أعقبت اغتياله حرب أهلية دموية، عرفت باسم La Violencia امتدت عشر سنوات، بين اليمين المحافظ والاتجاه الليبرالي، راح ضحيتها عشرات آلاف من الضحايا. وعندما تتمشّى في شوارع بوغوتا اليوم ستشاهد تماثيل جايتان ومعالم كثيرة تحمل اسمه. وتعرف بداية مرحلة اللاستقرار في الدولة باغتياله الذي ما زالت تتعاطف معه الأجيال الكولومبية اللاحقة، والتي لم تعايش تلك المرحلة أصلاً. ما زالت الحرب الأهلية بين اليمين المحافظ والاتجاه اليساري الليبرالي بعد اغتيال جايتان تمثل جوهر الصراع اليوم، وإن اختلفت التعبيرات والأحداث، واختلف اللاعبون أيضاً.
المعادلة الصفرية هي إحدى الصفات التي ميّزت صراعات دولية كثيرة، وتهدف فيها الأطراف إلى إلحاق الهزيمة الساحقة بالطرف الآخر أو إنهائه، والحرب في كولومبيا ليست استثناءً. وبهذا الصدد، من الصعب أن نقع على صراع دولي يخلو من دور للقوى الكبرى التي تقود النظام الدولي، مثل حكومة الولايات المتحدة، ففي فترتي حكم بيل كلينتون وجورج بوش، قدّمت واشنطن للحكومة الكولومبية مساعداتٍ مالية بحوالي ثلاثة مليارات دولار، من أجل القضاء على تنظيم الفارك وغيره من التنظيمات المتمرّدة وإحكام السيطرة على جميع الأراضي الكولومبية. والرئيس اليميني المتشدّد، ألفارو أوريبي، Alvaro Uribe (2002 – 2010) هو من قاد هذه الحملة، فاستعرت نيران الحرب في معظم أجزاء كولومبيا، إلا أن النتيجة لم تكن مفاجئة، حيث دفع الثمن الأكبر للحرب المدنيون الذين قتلوا بالآلاف، من دون أن تتمكّن الحكومة من القضاء على التمرّد. من أخطر الدروس التي تقدّمها لنا التجربة الكولومبية دور المليشيات شبه الحكومية وغير الرسمية (paramilitary)، والتي لا تحتكم إلى قواعد قتال أو اشتباك رسمية ذات مسؤولية حكومية، حيث ترتكب المجازر من دون أن يكون هناك مساءلة أو رقابة على عملها. تفيد إحدى الإحصائيات بأن عدد القتلى على يد المليشيات شبه الحكومية وصل إلى 95 ألفا مقابل 37 ألفا قتلهم المتمرّدون وعشرة آلالف قتلتهم القوات الحكومية، فالمليشيات شبه الحكومية إذاً هي المسؤول الأكبر عن الفظائع التي ارتكبت خلال عقود من الحرب الأهلية في كولومبيا، حيث كان لها نصيبها أيضاً من جرائم الخطف والاعتداءات الجنسية وغيرها. وتذكّر تجربة كولومبيا هذه بتجربة الحرب في البوسنة، حيث كان للمليشيات شبه الحكومية الصربية أيضاً الدور البارز في الفظائع التي ارتكبت هناك من قتل وتشريد واغتصاب وغيرها. وهذا يدقّ ناقوس الخطر في فلسطين أيضاً حيث تلعب قطعان المستوطنين في الضفة الغربية دوراً مشابهاً لدور المليشيات شبه الحكومية التي تتلقى الدعم غير المباشر من الدولة، من دون أن تكون محسوبةً على صفوفها في جيشها الرسمي، ومن دون أن تخضع للمساءلة والمحاسبة. وهنا لا بد من التذكير، على سبيل المثال، بفظائع المستوطنين الذين أحرقوا أفراد أسرة بكاملها من عائلة دوابشة في نابلس أحياء، من دون أن يلقى المجرمون الجزاء الذي يستحقّون.
المعادلة الصفرية إحدى الصفات التي ميّزت صراعات دولية كثيرة، وتهدف فيها الأطراف إلى إلحاق الهزيمة الساحقة بالطرف الآخر أو إنهائه، والحرب في كولومبيا ليست استثناءً
جرى تشكيل هذه المليشيات في كولومبيا سابقاً بقرار حكومي، عندما سمحت الدولة لأصحاب الممتلكات وغيرهم بتشكيل مليشيات للدفاع عن ممتلكاتهم ومحاربة المتمرّدين اليساريين. ورغم أن قرار تشكيلها لم يستند إلى أي أيديولوجيا أو برنامج سياسي، إلا أنه، ومع الزمن، ولدت أيديولوجيا سياسية لها تمثلت بتركيز جهودها على محاربة اليساريين وأفكارهم والقضاء عليهم عقيدة وبرنامج عمل، أي، بكلمات أخرى، تحولت المليشيات شبه الحكومية إلى جزء من الصراع الأيديولوجي الأكبر في كولومبيا بين اليمين المحافظ واليسار الليبرالي، وهذا يمثل الدرس الثاني في موضوع المليشيات للتجربة الفلسطينية، حيث إن إرهاب المستوطنين ليس محصوراً باعتداءات محدّدة، ولكنه قد بدأ، منذ فترة طويلة، بالتحوّل إلى عقيدة دينية سياسية سيشكل التعامل معها تحدّيا كبيرا للمشروع الوطني الفلسطيني الآن وفي المستقبل. وبالمناسبة، هو سيشكّل تحدّيا من نوع مختلف بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي أيضاً، وإن لم يكن على درجةٍ كبيرةٍ من الوضوح في الوقت الراهن، فهم أيضاً بحاجة للتعامل معه، عندما يشكّل خطورة أكبر للمجتمع ككل. وبهذا الصدد، تجدُر الإشارة الى أن الرئيس الكولومبي اليميني المتشدّد، ألفارو أوريبي، قد أدرك وهو، في ذروة حربه ومعادلته الصفرية تجاه "فارك" والمتمرّدين الآخرين أن المليشيات غير الحكومية تشكل خطراً، ليس أقلّ كثيراً على الدولة من متمرّدي اليسار، فحاول مقاومتهم، والحدّ من نفوذهم، إلا أنه لم يستطع، فبالعادة نهمل الخطر الكامن لدى هذه المجموعات الخارجة على القانون، وهم يحاربون إلى جانبنا، ثم ندرك خطرهم لاحقاً، وبعد فوات الأوان، وبعد أن استفادوا من الدعم المقدّم إليهم، وبعد أن تحوّلوا من مليشيات فالتة العقال إلى مجموعات منظّمة ذات عقيدة سياسية.
سلام سانتوس و"أوسلو"
توصّل الرئيس الكولومبي مانويل سانتوس (Manuel Santos) (2010 - 2018) في العام 2016، إلى قناعةٍ مغايرةٍ لسلفه، أن المعادلة الصفرية لن تجدي مع المتمرّدين، ولا بد من الجلوس إلى طاولة المفاوضات، واستطاع فعلاً أن يصل إلى عقد اتفاق سلام، وافق فيه المتمرّدون على الشراكة السياسية، وتسليم أسلحتهم والتحوّل إلى حزبٍ سياسيٍّ يترشّح في الانتخابات، ويأخذ مكانه في البرلمان. وكما، هي العادة، تبقى معارضة اتفاقات السلام موجودة عند جزءٍ من كل من المعارضة والحكومة، فمن جهة المعارضة، تمسّك قسمٌ قليلٌ من المتمرّدين بأسلحتهم، واستأنفوا القتال ضد الحكومة ومليشياتها شبه الرسمية، ورفضوا الالتزام بمقرّرات اتفاق السلام.
تساهم تجربة كولومبيا مع اتفاق السلام في الإجابة عن بعض الجدل غير المحسوم في أدبيات دراسات الصراع، ومنها السؤال بشأن أصحاب المواقف المتطرّفة في معارضة الحلول السياسية، هل هم الذين يعانون من ويلات الحرب، أم الذين لا يكتوون مباشرة بنيرانها. في حين أن هناك من يقول إن الذين يعانون أكثر يتطرّفون أكثر (أقلّه من باب الثأر والانتقام)، إلا أن الاستفتاء الذي أنجزته حكومة سانتوس أظهرت أن التأييد الأكبر للاتفاق قد جاء من المناطق التي عانت فظائع الحرب الأهلية لأكثر من نصف قرن، وهي المناطق النائية في الشرق والغرب والجنوب والشمال الكولومبي، في حين أن المعارضة الأكبر للاتفاق قد جاءت في مناطق الوسط، ومنها العاصمة بوغوتا، وهي المناطق التي عانت، بدرجة أقل من ويلات الحرب. في المحصلة النهائية، حصل الاتفاق على تأييد بنسبة 49% مقابل 50% معارضة للاتفاق، ما اضطرّ الحكومة والمعارضة إلى إجراء تعديلات عليه، للحصول على موافقات إضافية ممن عارضوه.
المساءلة في كولومبيا عن سنوات الحرب لا تعني نصب أعواد المشانق في بوغوتا، ولكنها لا تعني، في الوقت نفسه، التنازل عن حقوق الضحايا
كانت المعارضة الحكومية أخطر على هذا الاتفاق، حيث منح سانتوس جائزة نوبل للسلام على اتفاق السلام الذي قدّمه للشعب الكولومبي، وغادر المشهد السياسي عام 2018، بعد انتهاء ولايته الثانية، ليصل إلى سدة الحكم بعده أنصار الرئيس اليميني المتشدّد والقوي، ألفارو أوريبي، حيث نجح هذه المرّة مرشّحه، إيفان دوكي، الذي لم يكن معروفاً من قبل، ولكنه فاز بفضل دعم أوريبي له، حيث خاض الانتخابات بالدعوة علناً إلى إفشال اتفاق السلام مع المتمرّدين. وفعلاً، فقد دخل الاتفاق بعد عام 2018 في مرحلة شلل، لم يستطع تقديم أي إنجازاتٍ حقيقية باتجاه تنفيذه. وتذكّرنا المعارضة الحكومية لاتفاقات السلام هنا بالموقف الذي اتخذه رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، بنيامين نتنياهو، من اتفاق أوسلو الذي قطع على نفسه عهداً بالقضاء على الاتفاق، وعلى "حل الدولتين"، حيث تمكّن من ذلك فعلاً، ولو بعد سنوات طويلة. وهنا نتوصّل إلى نتيجة تتوافق مع أدبيات دراسة الصراعات، مفادها بأن التحدّي في تسوية الصراعات هو ليس بالتوصل إلى اتفاقات سلام، وإنما بالقدرة على تطبيقها.
ولكن التطور المفاجئ في الحالة الكولومبية كان في نتيجة الانتخابات الرئاسية لعام 2022 التي نجح فيها مرشّح يساري لأول مرة في تاريخ البلاد غوستافو بيترو (Gustavo Petro) الذي قاتل هو نفسه في صفوف المعارضة، عندما كان شاباً (في عمر 17 عاما)، واعتقلته وعذّبته سلطات اليمين الكولومبي. ويعطي نجاحه في الانتخابات الرئاسية، وهو من أوائل من دخل مفاوضات مع الحكومة، بارقة أمل بالتقدّم بتطبيق اتفاق السلام في كولومبيا، رغم المعارضة الشديدة التي يقودها أنصار أوريبي.
العفو عندنا والمحاسبة عندهم
لم يتعامل الكولومبيون مع اتفاق السلام كما في بعض التجارب العربية، مثل اتفاق نقل السلطة في اليمن الذي منح علي عبد الله صالح ومن حوله عفواً شاملاً وحصانة ضد المحاكمات. وبالتأكيد، لم يتعاملوا مع الاتفاق، كما في تجربة اتفاق أوسلو الذي لا يأتي على ذكر ضحايا الاحتلال والسجون والتعذيب والتهجير، بل نصّ الاتفاق الكولومبي على تأسيس قانون للعدالة الانتقالية، يُسائل المتورّطين عن فظائع حرب وانتهاكات حقوق الإنسان وبطرق خلاقة، غير التي توكل جميعها للمحكمة لإصدار أحكام مجرّدة من إطارها التصالحي. المساءلة في كولومبيا عن سنوات الحرب لا تعني نصب أعواد المشانق في بوغوتا، ولكنها لا تعني، في الوقت نفسه، التنازل عن حقوق الضحايا، فإنصاف ضحايا الحرب، وهو ما افتقده الفلسطينيون واليمنيون أيضاً، بقيت في جوهر عملية السلام في كولومبيا، وهو ما يعطي بصيص أمل إضافي لنجاح التجربة.
أخطر التحدّيات أمام اتفاق السلام كارتل المخدّرات الذي تمأسس وقوي عودُه طوال فترة الحرب الأهلية، والذي أصبح لاعباً رئيسياً في أي تسوية
وقد استوقفتني، في متحف الذاكرة والمصالحة في بوغوتا، عبارة No se mata la verdad matando periodistas (أنت لا تقتل الحقيقة بقتل الصحافيين)، حيث إن كل حرف في المقولة يستحضر وجه (وذاكرة) الصحافية الفلسطينية الشهيدة، شيرين أبو عاقلة، التي أظهرت حقيقة المحتل الإسرائيلي الهمجية، حاليا وإلى الأبد، باستهداف الصحافيين، ظنّاً منه أن ذلك سيُخفي الحقيقة.
تحدّيات تطبيق اتفاق السلام في كولومبيا، والتي تواجه الرئيس اليساري المنتخب (المقاتل في صفوف المعارضة سابقاً) عملاقة، ولن يكون من السهولة بمكان على الرئيس الجديد حلها جميعاً، فهي لا تقف عند صفوف المتمرّدين من المعارضة الذين رفضوا إلقاء السلاح واستأنفوا القتال، ولا المعارضة اليمينية القوية والمتنفذة، والتي تعمل في العلن على إفشال الاتفاق، ولا التنمية في المناطق الريفية التي نصّ عليها الاتفاق أو تنفيذ "العدالة الانتقالية". ولكن ربما ما هو أخطر منها جميعاً هو كارتل المخدّرات الذي تمأسس وقوي عودُه طوال فترة الحرب الأهلية، والذي أصبح لاعباً رئيسياً في أي تسوية، ولكن كمعطّل (spoiler) لأي اتفاق سيسحب منه امتيازاته التي راكمها طوال السنين الماضية. والأصعب من ذلك أن نشاط كارتل المخدّرات ليس محصوراً في كولومبيا، بل له امتداداته الإقليمية في عديد من دول أميركا اللاتينية، والسيطرة عليه، بالتالي، تتطلب تنسيقاً إقليمياً على المستوى القارّة غير موجود بهذه اللحظة.
ولكن. ورغم هذه التحدّيات الجسام، إلا أن الأمل في تطبيق الاتفاق، وفي انتصار العدل والكرامة الإنسانية، يبقى حقيقة في كولومبيا وفلسطين، وفي مناطق الصراع الأخرى، بحاجة فقط لمن يتابعها ويناضل من أجلها. كان من أجمل العبارات التي قرأتها في كولومبيا قبل مغادرتي No hay tinieblas Que la luz no venza (لا يوجد ظلام لا يستطيع الضوء هزيمته)، وهذه العبارة التي على الرئيس الجديد بيترو تذكّرها، وهو يخوض معركة تطبيق الاتفاق لإحلال السلام والعدالة والكرامة في كولومبيا، رغم عمل كل القوى الأخرى التي تعمل على إفشاله.