الحرب على أوكرانيا
بدأت الحرب العالمية الثانية بهجوم ألماني وسوفييتي على بولندا، وكان المهاجمان قد وقّعا معاهدة سرّية، اتفقا فيها على إزالة بولندا من الوجود بتقاسم أراضيها بينهما. أرادا العودة إلى تراث الإمبراطوريتين الروسية والبروسية عندما كانت أراضي بولونيا موزّعة بينهما، ولكن نتائج الحرب العالمية الأولى أدّت إلى ظهور الجمهورية الثانية في بولونيا التي أدركت حكوماتها أنها ستتعرّض للغزو الألماني يوماً ما، فبنت سياستها واقتصادها على عقيدةٍ دفاعيةٍ في وجه الألمان، ولكن هذه العقيدة التي استمر بناؤها عشرين عاماً تقوضت خلال 35 يوماً، هي فترة الغزو، فقد باشر هتلر بتحريك قواته نحو بولونيا في الأول من سبتمبر/ أيلول عام 1939، بعد أسبوع من توقيع الاتفاق مع ستالين. وبعد يوم من تصديق مجلس السوفييت الأعلى على الاتفاقية، بدأ الهجوم السوفييتي من الشرق، لتقع بولندا فريسة عدوين، وتتوزّع جغرافيتها بينهما.
كان في أوروبا حينها ثلاث قوى رئيسية، أُولاها قوة هتلر الناشئة ذات الطموح العسكري القائم على التعصّب القومي. وثانيتها قوة الشيوعية التي سادت في روسيا، وتمدّدت لتضم بعض ممتلكات القيصر السابقة، مؤمنةً بتصدير أفكارها لتشمل العالم كله. أما القوة الثالثة، فهي قوى الانتداب، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا التي ترفع شعار الديمقراطية، وتتبنّى سياسة ضبط الأعصاب تجاه كل من القوتين الجارتين. اعتبر كل من ستالين وهتلر بولندا أرضاً ضروريةً ورأس جسر للتمدّد، وكان تحالفهما مرحلياً وضرورياً لعبور لحظة بولندا، فيما كان "العالم الديمقراطي" غارقاً في لعبة السياسة، وحريصاً على إبقاء هتلر راضياً، وهادئاً، فمنحته كل من بريطانيا وفرنسا مناطق النمسا والتشيك، وسكتتا عن إقامة حكومةٍ عميلةٍ له في سلوفاكيا. وقد كانتا مستعدّتين لأن تغضّا البصر عن احتلاله بولندا نفسها، ولكن طموحات هتلر التي لم تعرف حدوداً أجبرت كلاً من بريطانيا وفرنسا على خلع قشرة التحفظ، فنشبت بعد ذلك أكبر حربٍ مدمّرة عرفتها البشرية في التاريخ الإنساني كله، بعد أن عقدتا تحالفاً مرحلياً وضرورياً مع ستالين نفسه.
تستحضر أزمة أوكرانيا الحالية ذلك التراث بتفاصيله، وتستدعي إعادة قراءة الأحداث التي أعقبت الحرب، وصولاً إلى هذه اللحظة، حيث يشكّل التاريخ والجغرافيا والطموح عواملها الرئيسية، وهي العوامل نفسها التي حرّكت احتلال بولندا، وقد تكون جزئية توسيع المدى الاستراتيجي لكل من روسيا وحلف الناتو حاسمة.
لدى الرئيس الروسي بوتين بديل لأنابيب الغاز التي تصل إلى أوروبا عبر أوكرانيا في بحر البلطيق، فقد انتهى للتو من بناء خط أنابيب جاهز، وقادر على صبّ الغاز الروسي في الجانب الألماني من بحر البلطيق. وأهمية أوكرانيا جغرافية، فهي مكان خالٍ من أسلحة "الناتو"، ما يعطيها مجالاً دفاعياً وهجومياً في الوقت ذاته. أما "الناتو"، فهو على مقربة من موسكو عبر بوابة جمهوريات البلطيق، ولكن أوكرانيا يمكن أن تؤمن لدوله إنذاراً مبكراً وزمناً ضرورياً للتأهب ضد أي هجوم روسي محتمل. والحلم بأوكرانيا استراتيجي لطرفي الصراع، لكن الجانب الغربي ما زال يعتمد أسلوبه الذي اتبعه قبل الحرب العالمية الثانية، وهو سياسة ضبط الأعصاب والتلويح بالعقوبات وتقديم التواريخ لموعد الغزو.
على الرغم من أن الرئيس الأميركي بايدن يؤكد، المرّة تلو المرّة، أن الغزو وشيك، إلا أن احتمالاته تضعُف مع الوقت، خصوصاً أن بوتين يعلن أنه بدأ بتقليص قواته المرابطة على الحدود، وإذا كان إعلاناً كاذباً، فهي إشارة إلى أنه يريد الاحتفاظ بأوكرانيا أو الاحتفاظ بوضعية التوتر الحالية، بإبقاء حالة التهديد فعّالة إلى أقصى مدة ممكنة. وفي هذا التفصيل يتجاوب معه الغرب بالمراوحة في المكان، وتكرار المواقف، والترقّب لاحتمال أن يرتكب الدب خطأه القاتل، من دون أن يعرف أحدٌ ماذا يمكن أن يفعل أكثر من عملية الغزو ذاتها، لكن بوتين، في الواقع، يفضّل أن يُبقي على حالة التوتر هذه، وعدم السقوط في خطيئة هتلر.