الحرب الروسية الأوكرانية وحافّة الهاوية
مرّ عام على الحرب الروسية الأوكرانية، ولا يبدو أن أصوات المدافع ومختلف الأسلحة تتجه نحو الهدوء، لتترك للأوكرانيين فرصة الوقوف على حجم الدمار المهول الذي خلفته، ومحاولة لملمة الواقع البائس الذي فرضته وتضميد الندوب العميقة التي لن تستطيع السنين الطويلة محوها، فالحروب بطبيعتها لا تعرف الرحمة، فلهيبها يطاول الصغار والكبار، ولا مجال فيها للتمييز بين مدني وعسكري. روّعت هذه الحرب الضروس أوكرانيين عديدين وطوحتهم في المنافي وبلدان النزوح، لتتحوّل حياتهم بين عشية وضحاها إلى جحيم مرعب، فقدوا معه الأمن والاستقرار والاطمئنان.
الحرب التي تجري رحاها على الأراضي الأوكرانية هي حرب الكبار، ودافعها الانفراد بالقرار العالمي، بين من يريد الإبقاء على عناصر القوة والسيطرة في يد الغرب بقيادة الولايات المتحدة وبين روسيا (وحلفائها) التي تعمل المستحيل لكسر الطوق المضروب عليها، ودفع التهديد عنها وإبعاد الصواريخ القريبة من مجالها الحيوي، واستعادة دورها على المسرح الدولي، فالولايات المتحدة في نظر الرئيس الروسي، بوتين، لا تخفي رغبتها في إضعاف بلاده من خلال الاستمرار في توسّعها عبر الدول التي كانت تحت المظلة الشرقية قبل تفكّك الاتحاد السوفييتي. وعليه، اختارت روسيا بوتين المغامرة والحرب الاستباقية لوقف الزحف الغربي نحوها. فقد اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، بريجنسكي، بعد نهاية الحرب الباردة بأربع سنوات، أوكرانيا ثقلا موازنا لروسيا. وحثّ الولايات المتحدة على إعطاء أهمية استراتيجية لها، حتى لا تتمكّن روسيا من استعادتها، وبالنتيجة تفشل في إعادة بناء قوتها.
قد يكون للدعم الغربي الواسع لأوكرانيا وتشديد العقوبات على روسيا عواقب غير محمودة
سبق أن قطعت الولايات المتحدة، ومعها الغرب، على نفسها، عهدا بعدم ضم الدول التي كانت ضمن دول حلف وارسو في الحقبة السوفييتية، إلا أن الرغبة في التوسّع وبناء القوة والنفوذ، أفسحا المجال أمام حلف الناتو، ليطلّ برأسه على الحدود الروسية ولتصبح صواريخه قاب قوسين من موسكو. إنه مكر التاريخ، فالاتحاد السوفييتي نصب، في ستينيات القرن الماضي، صواريخ نووية على الأراضي الكوبية، ولم تكن تفصلها عن سواحل فلوريدا سوى 90 ميلا. يومها كان العالم قريبا من الانزلاق إلى حربٍ نووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وها هو العالم اليوم، لا ينام حتى يستفيق على تهديد روسي باللجوء إلى السلاح النووي.
يبدو الغرب عازما على المضي في الحرب إلى حد هزيمة موسكو، ويترجم ذلك من خلال الدعم المادي والعسكري السخي والنوعي لكييف التي حصلت، أخيرا، على أسلحة مضادّة للدبابات والطائرات وعربات مدرّعة ومنظومات صواريخ متطوّرة "هيمارز" ونظام الاتصالات "ستارلينك"، وتطالب الولايات المتحدة بمنحها طائرات إف 16 استعدادا للمعركة الفاصلة في الربيع المقبل.
وعلى الرغم من تأثير الحرب على أوروبا التي واجهت واقعا مزريا، تمثل في نقص الطاقة وغلاء الأسعار، إلا أن الغرب يبدو متماسكا رغم فاتورة الحرب وكلفتها الباهظة. وتعكس زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن كييف أخيرا، وكذا زيارات القادة الأوربيين لها، استمرارهم في دعم أوكرانيا حتى تحقّق انتصارها ضد الروس.
كرّر بوتين على مسامع الغريم الغربي أن "لا حاجة إلى عالم لا مكان فيه لروسيا"
قد يكون للدعم الغربي الواسع لأوكرانيا وتشديد العقوبات على روسيا عواقب غير محمودة. كما أن اغتيال مبادرة الصين لحل النزاع في مهدها والحكم بأنها خدمة لموسكو قد يعقد الأمور، ولا يترك فوق الطاولة إلا الحل العسكري بجميع المخاطر التي يحملها، فالصين دعت إلى احترام سيادة الدول والتخلي عن عقلية الحرب الباردة ووضع حد للقتال واستئناف محادثات السلام ووضع حدّ للعقوبات الأحادية. ورغم أن الغرب ينظر إلى الصين حليفا لروسيا، إلا أنه يبقيها بعيدة عن التوغل في الحرب والدعم المباشر لموسكو، فمبادرة الصين لإيجاد مخرج للحرب المشتعلة بين الغرب وروسيا لم تحظ لا برضا الأميركيين ولا الأوروبيين، وهو الشيء الذي يرشح الحرب لمزيد من التصعيد. وموقف الصين من الحرب الروسية الأوكرانية يخضع لحسابات جيوسياسية دقيقة للغاية، فالصين ليست مع روسيا في الحرب، لكنها في الوقت نفسه ليست ضدها. وهي فيما تُعدّ التحدي الأبرز للولايات المتحدة لا تخفي أن الحرب الروسية الأوكرانية خلطت أوراقا كثيرة وغيرت أولويات أو عطلتها ولعبت لصالحها ومنحتها وقتا، استعدادا للآتي، حين تضع الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها. نجحت في اللعب على حبال الحرب المشتعلة بالشكل الذي يخدم مصالحها، فمشاريع القرارات السبعة التي قدمها الغرب للتصويت عليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلسي الأمن وحقوق الإنسان، ضد روسيا، صوّتت الصين ضد ثلاثة منها، وامتنعت عن التصويت على أربعة، ما أعطاها وضعا خاصا في هذا النزال الذي سيؤثر حتما على شكل النظام الدولي بعد الحرب التي شبّهها كثيرون بالحرب العالمية الثالثة.
الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة ومعها الرئيس الأوكراني زيلينسكي، مصمّمون على الاستمرار في الحرب، ولا يقبلون بغير هزيمة الروس ودحرهم عن كل أوكرانيا وعودتهم، يجرّون خيبة المغامرة، فقد قدّم الغرب ولا يزال فاتورة الحرب التي بلغت حوالي 150 مليار دولار، ويعد بالمزيد مع دخول الحرب عامها الثاني، فالدعم الذي يتدفق على أوكرانيا والعقوبات التي تزداد قوة على روسيا قد لا تترك خياراتٍ كثيرة أمام الروس وزعيمهم بوتين الذي كرّر على مسامع الغريم الغربي أن "لا حاجة إلى عالم لا مكان فيه لروسيا"، وهذه إشارة إلى إمكانية انزلاق روسيا إلى استعمال الترسانة النووية في الحرب.
هل يراجع الغرب حساباته في الحرب المفتوحة، ويخفض من ضغوطه على الروس بعدم حشرهم في الزاوية الضيقة، حتى لا يختار بوتين الانتحار ومحو العالم قبل قيام الساعة؟