الاتفاق السعودي الإيراني وانعكاسات إيجابية منتظرة
لا يبدو قرار عودة العلاقات السعودية الإيرانية متسرعا، فالتقارب الذي جرى برعاية الصين، وهي الدولة الكبرى، يعطي الحدث دلالات عميقة، ويفتحه على مسار التحوّلات الكبرى التي تشهدها لوحة الشطرنج العالمية، وسعي مكونات المجتمع الدولي الحثيث إلى إعادة رسم تموضعها، ضمن عالمٍ يتغير باستمرار، فالاتفاق السعودي الإيراني، الذي جرى طهيه على نار هادئة، أثار سيلا من التحاليل في كبريات المؤسّسات الإعلامية بين مشكّك في صلابته وقوته ومن اعتبره زواج مصلحة لن يصمد طويلا، بالنظر إلى طبيعة الخلافات والملفات المتنازع حولها.
ولعل أبرز الأطراف التي تضرّرت من الاتفاق الولايات المتحدة التي راهنت كثيرا على العقوبات القاسية ضد إيران، لعزلها وإضعافها وحملها على الخضوع لشروطها في العودة إلى الاتفاق النووي، فالولايات المتحدة لا يمكن أن تخفي انزعاجها من هذا الاتفاق الذي خلط أوراقا كثيرة، خصوصا أنه جاء تحت مظلّة تنّين كبير، يتّسع نفوذه ويخطو بثباتٍ على طريق الحرير، لتأكيد شراكته في قيادة نظام عالمي جديد رهن التشكّل.
كما أن صدمة كيان الاحتلال في فلسطين كانت مزدوجةً وأليمة، فالضربة الأولى جاءت من السعودية التي كانت حكومة نتنياهو تمنّي نفسها بإلحاقها باتفاقيات أبراهام والتطبيع معها لاستكمال المخطّط الذي يقضي بإنشاء "ناتو عربي"، يوظّف في شنّ حربٍ ضد إيران. وهو ما جعل هذه المهمة، على الأقل، بعيدة إن لم نقل إنها أصبحت ضمن سابع المستحيلات. وجاءت الضربة الثانية من إيران، التي تمكن الاحتلال من شيطنتها واستغلال التباعد والتنافر بينها وبين محيطها الإسلامي. فعودة إيران ومن الباب العريض، باب السعودية، نزع كل الأوراق التي وظفت في التجييش ضدّها. فكيان الاحتلال، بإنجاز هذا الاتفاق، خسر السعودية التي كان يرى فيها شريكا في العداء لإيران، وخسر إيران الدولة المنبوذة والمعزولة في محيطها، بأخرى قوية، براغماتية، منفتحة ومستعدّة لبحث الملفات التي أقحمت المنطقة في حروبٍ لا تبقي ولا تذر.
السعودية وإيران يمسكان بمفاتيح الحل لإنهاء معاناة الشعب اليمني
والحال أن السعودية اتّخذت خطوات ومواقف، أظهرتها على غير ما عُرفت به في السابق. فتخفيض إنتاج النفط بمليوني برميل يوميا في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أثار حفيظة إدارة الرئيس بايدن، ورأت في القرار استهدافا لها ودعما لروسيا التي تشنّ حربا ضد أوكرانيا. أما الرئيس الروسي بوتين الذي كان معنيا بتخفيض إنتاج النفط، فقد فوجئ بالكمية التي دافعت عنها السعودية. كما أن تغيير الوجهة أو تنويعها والانفتاح على قوى دولية لم تعهد التعامل معها في السابق، هذا كله يبرز أن السعودية أدخلت تغييرات جذرية على سياستها، يمكن أن تصل في الأيام المقبلة إلى اعتماد العملات المحلية في العلاقات التجارية بينها وبين الصين وروسيا. وهذا إذا تم، سيكون حلقة ذات أثر بالغ في إضعاف الدولار الذي لا يبدو مستقبله آمنا، في ظل الصراعات المحمومة التي يشهدها العالم عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
الاتفاق السعودي ــ الإيراني، وإنْ كان يخدم الطرفين والمنطقة التي عاشت تحت لهيب حارقٍ أكثر من عقدين أسودين، إلا أن إنجازه يرجع، بالأساس، للسعودية التي حلّقت خارج السرب، وقرّرت طي صفحة الماضي، وأخذ مسافة واضحة من التدابير التي كانت تقترب من فتح جبهة مواجهة جديدة ضد إيران، فلم تمض على الاتفاق إلا أيام معدودات، حتى وجّه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز دعوة إلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة السعودية، ليقطع الشك باليقين، ويغلق بذلك قوس اختبار نيات البلدين في فترة الستين يوما، التي راهن عليها كثيرون لعرقلة قطار عودة علاقات الرياض وطهران. وهي الدعوة التي قبلها الرئيس الإيراني ورحّب بها، تعزيزا للمصالحة وترجمة لإرادة البلدين في تجاوز كل ما يعيق التعاون الثنائي والمصالح المشتركة.
سينعكس الاتفاق السعودي ــ الإيراني، الذي رحب به كثيرون وأغاظ آخرين، إيجاباً على كل الجبهات
ها هي الحرب في اليمن، والتي لم يكن التوقع بحسمها يتجاوز الأشهر، تقترب من عامها السابع، بكلفة عالية، بشرية ومادية، فاليمن السعيد تحول إلى بلاد منكوبة تفتك بها المجاعة والأمراض والانقسامات، دفع ثمن الحرب من أمنه واستقراره، يتطلع اليوم إلى حل سياسي سريع، يضع حدّا لأصوات المدافع وأزيز الطائرات التي حوّلت البلد إلى جحيم، فالسعودية وإيران يمسكان بمفاتيح الحل لإنهاء معاناة الشعب اليمني.
أما لبنان، فقد كاد يغرق من رأسه إلى أخمص قدميه في أوحال الصراعات والتجاذبات المتفجّرة على أكثر من صعيد بين حلفاء كل من السعودية وإيران. يتطلع أبناء هذا البلد الصغير في مساحته، والكبير في تأثيره، إلى اجتراح حلول سريعة لأزماته السياسية والاقتصادية والمعيشية التي باتت لا تُطاق، ففي مقدور التقارب بين بلدين لهما تأثير كبير في لبنان التخفيف من حدّة التوتر القائم بين مكوناته، والعمل على إيقاف التدهور المتواصل في الحالة المعيشية للبنانيين.
سينعكس الاتفاق السعودي - الإيراني، الذي رحب به كثيرون وأغاظ آخرين، إيجابا على كل الجبهات، وسيعمل على وضع حدّ للحروب المشتعلة في المنطقة، لينعم من فقدوا الطمأنينة والسلامة بقليل من الراحة بعيدا عن القصف والاقتتال وشظف العيش.