الحراك الجزائري قاطرة الانتقال الديمقراطي السلمي
تمرّ هذه الأيام سنتان على انطلاق الحركة الاحتجاجية الشعبية السلمية في الجزائر، والمتمثلة في الحراك الذي سرّع في إبطال العهدة الخامسة لرئيسٍ لم يحكم بلده منذ سنين بسب المرض. وساهم الحراك كذلك في استرجاع الجزائريين حقهم في التظاهر السلمي في شوارع مدنهم، من أجل قضاياهم المصيرية والحيوية، بل وكرامتهم، ليسترجعوا فضاءاتهم العامة للتعبير عن سخطهم ورفضهم ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، في ظل انسداد غير مسبوق للأفق، جرّاء تفشّي الفساد وغياب معارضة سياسية فعالة، وتكميم الأفواه وشراء الذمم، بالإضافة إلى إقصاء القوى الحية في البلاد وتهميشها. ليحيي الحراك بذلك العلاقة الطبيعية للجزائريين مع العمل السياسي، بعدما عطّل النظام القنوات التقليدية للمشاركة السياسية لفائدة الموالاة. لهذا، أصبحت المسيرات الشعبية الوسيلة الوحيدة المتاحة للعمل السياسي، بل وللتواصل في ما بين الجزائريين، بعد قطيعة طويلة. يضاف إلى هذا كسر الجزائريين هاجس الخوف من بطش بعض الأجهزة الأمنية.
ويبرز الحراك الجزائري قوته كذلك من خلال المشاركة الواسعة لفئاتٍ مجتمعيةٍ تنتمي لأجيال مختلفة ومن الجنسين، بما فيها الشباب الذين ولدوا بعد تسعينيات القرن الماضي، ما يعبر عن وعي كل مكونات المجتمع الجزائري بضرورة التغيير، والتغيير السلمي، من أجل ضمان مستقبل آخر للجزائر والجزائريين، معبراً بذلك عن أن عهد الشعب الذي حُكِمَ باسمه منذ الاستقلال قد ولى.
تعدّدت التحدّيات والمخاطر، خصوصا في غياب مؤشّرات جدية، تدعم التغيير السياسي المنشود جماهيريا
برز حرص الجزائريين على مواصلة مسيراتهم السلمية، للمطالبة بالتوجه نحو تغيير سلمي للنظام، مجدّداً بعد انقطاعها من خلال مناورات النظام تحت غطاء محاربة وباء كورونا، في المسيرات الشعبية الحاشدة التي عرفتها مدن جزائرية عديدة إحياءً للذكرى الثانية للحراك. لتبقى روح الحراك حية، مهما تعدّدت التحدّيات والمخاطر، خصوصا في غياب مؤشّرات جدية، تدعم التغيير السياسي المنشود جماهيريا، والحديث عن توسع الخلافات في أعلى هرم النظام، بالإضافة إلى ذهول الجزائريين أمام حجم الفساد الذي كشفته نتائج المحاكمات المتواصلة لمسؤولين تقلّدوا مسؤوليات رفيعة في الدولة (يقبع في السجن اليوم الوزير الأول أحمد أويحيى، الذي تقلد رئاسة أول حكومة له ما بين 1995 و1997، والوزير الأول عبد المالك سلال، الذي تقلد رئاسة أول حكومة له ما بين 2012 و2017، بالإضافة إلى وزراء ومسؤولين رفيعين تناوبوا على مسؤوليات مختلفة في السلطة). لتشهد هذه المحاكمات بذلك على غياب الرقابة منذ 1990 في أعلى هرم النظام، من جرّاء إضعاف مؤسسات الدولة وتراجع دور الأحزاب، فقد عمل النظام الجزائري، منذ تسعينيات القرن الماضي، على إضعاف الحياة السياسية وإيجاد معارضة شكلية، هدفها الأول المشاركة في عائدات اقتصاد الريع من خلال الحصول على حقائب وزارية ومقاعد برلمانية ومناصب في مختلف الوظائف الحكومية.
فقدت جل الأحزاب قاعدتها الشعبية، بل وحتى مصداقيتها
في ظل هذه الأوضاع، تم تعطيل الدور التقليدي للأحزاب السياسية في الجزائر، ليترتّب عن هذا الحال تنامي عزوف الجزائريين عن المشاركة في الانتخابات منذ بداية الألفية الجديدة. وهكذا فقدت جل الأحزاب قاعدتها الشعبية، بل وحتى مصداقيتها، خصوصا مع تحالفها مع رأس المال المحلي عشية الانتخابات، بما فيه المال المشبوه أو، كما يسمى في الجزائر، "الشكارة". بهذا، نجحت السلطة في عزل المواطنين عن الأحزاب والأحزاب عن المواطنين عزلاً حرم الجزائريين من التعبير عن تطلعاتهم وانشغالاتهم، بل ومخاوفهم. لكن، مع انطلاق الحراك، وجد الجزائريون فضاءً جديداً وغير تقليدي للتعبير عن سخطهم واستنكارهم ما آلت إليه الأوضاع. لهذا، يعتبر الحراك فرصة جديدة لإحياء العمل السياسي في الجزائر، بل وحتى النشاط السياسي بعيدا عن الأدوار التقليدية للأحزاب، بل وحتى بعيداً عن رقابة الدولة. ولكن النظام ومؤسساته، وقد تعود على تأطير العمل السياسي وتعيين ممثلين عن الشعب، يرى في الحراك والمسيرات تهديدا لوظائفه التقليدية في ما يخص تحديد مصادر البدائل والحلول، فالتغيير هو من مهام النظام ومؤسساته، وهو الوحيد الذي يختار الفاعلين ويدعمهم. لهذا أكد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في خطابه، قبل أيام، على دعم الدولة وتأطيرها المترشحين الجدد في الانتخابات البرلمانية من خلال التكفل بحملاتهم الانتخابية، لأن الانتخابات، من وجهة نظر النظام، هي شأن الدولة ومؤسساتها الخفية والمعلنة. وبسبب من هذا كله، يعتبر الحراك فرصةً لإحداث قطيعة أولية وجزئية في آليات صنع القرار السياسي، شريطة أن يحافظ على استقلاليته، بعيداً عن الممارسات المهيمنة في الجزائر في صنع النخب، وخصوصا النخب المحلية وشراء الولاءات.
تتطلب المرحلة المقبلة إيجاد آلياتٍ تنظيمية أو مبادرات تسمح بولوج نخب سياسية جديدة لديها الكفاءة السياسية والإدارية
لهذا تتطلب المرحلة المقبلة إيجاد آلياتٍ تنظيمية أو مبادرات تسمح بولوج نخب سياسية جديدة لديها الكفاءة السياسية والإدارية من الغيورين على وطنهم لخوض الانتخابات المقبلة، بعيدا عن الآليات التقليدية المعتمدة حاليا في العمل السياسي في البلاد، انطلاقا من دعم ترشيح الأحرار. والتغيير المأمول، والذي يضمن للجزائريين غدا أفضل في بلدهم، يتطلب اعتماد إجراءات وممارسات متعددة. لعل أولها انخراط الجزائريين في العمل السياسي مجدّدا، والمساهمة في إعادة بناء تركيبة المشهد الحزبي والسياسي، لأن أحزابا سياسية حالية عديدة لا تعبر، لا من قريب ولا من بعيد، عن تطلعات الشعب الجزائري، ولا سيما الشباب. تضاف إلى ذلك ضرورة إعادة إحياء دور النقابات والجمعيات المهنية ومختلف مؤسسات المجتمع المدني والمساهمة فيها. ولكن مستقبل الجزائر يتطلب كذلك مراجعاتٍ مؤسساتيةً بالدرجة الأولى، وخصوصا حتمية العمل على توفير الظروف والشروط الموضوعية التي تؤمن الانتقال الديمقراطي في الجزائر، وفي مقدمتها تحديد مهام مختلف مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسة العسكرية، لضمان ميلاد جمهورية جزائرية جديدة ومجتمع جديد، بل وجزائري جديد، وذلك في مستقبل قريب. إنها جزائر تتيح فرص العيش الكريم للجزائريين بعيدا عن ملامح الإقصاء والتهميش ومشاهد قوارب الموت، جزائر القانون، لا التعديلات الدستورية الصورية التي عهدناها، جزائر التداول السلمي للسلطة، بعيدا عن الحلول العسكرية والأمنية، أو الاعتماد على الاستئصاليين القدامى والجدد في حل المراحل الانتقالية والتعاطي مع الأوضاع الجديدة بما فيها الأزمات.
نعم، لقد نجح الحراك في تشكيل وعي سياسي وجماهيري جديد في الجزائر، لكن ترجمة هذا الوعي إلى مشروع تتطلب فهم مختلف مكونات النظام مسارات الشعوب والأمم واستيعابها، خصوصا من يحكمون في السر والعلن والنخب، قبل فوات الأوان، بما فيها العسكر، من أجل ضمان تحوّل ديمقراطي سلمي وسلس، يضمن للجزائر التوجه نحو نظام ديمقراطي على المدى المتوسط (بين خمس وعشر سنوات)، بعيداً عن مختلف ملامح العنف والتصعيد والتخوين، لنضمن للأجيال المقبلة من الجزائريين ظروف عيش كريمة، قوامها العدل وتكافؤ الفرص.