الجزائر ودستور الأمر الواقع
سجل الاستفتاء على الدستور في الجزائر، والذي أجري في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أدنى نسبة تصويت في تاريخ الانتخابات منذ استقلال الجزائر في 1962، فكل الأحزاب الموالية للنظام والمساندة له، وكل الجمعيات المدنية التي تزكّيها السلطة، وبمرافقة كل الوسائل الإعلامية الحكومية والخاصة، التقليدية منها والحديثة، التي جُندت لهذا الموعد الاستفتائي، لم تتمكّن من حشد ربع المنتخبين المسجلين، حيث بلغت نسبة التصويت 23.8% فقط.
ويؤشّر ارتفاع نسبة المقاطعة إلى 76.2%، بشكل واضح للعيان، إلى أن الجزائر تغيرت، وتغيرت كثيرا، ليس في الاتجاه الذي تقوله رئاسة الجمهورية، في بيان لها، عقب صدور النتائج باعتبارها "النتائج التي أعلنت عنها السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات بمثابة التعبير الحقيقي والكامل لما كان يريده الشعب". كان بإمكان ذلك أن يتحقق، لو كانت النسب معكوسة، لو كانت نسبة المقاطعة هي نسبة المشاركة. أما وأن الأمر برمته لم يتمخض إلا عن مشاركة 5.5 ملايين مصوّت، من مجموع 23.5 مليون ناخب مسجلين في اللائحة الوطنية للناخبين، وبتراجع قدره ثلاثة ملايين ناخب، مقارنةً مع آخر انتخابات أجريت في البلاد (الرئاسية) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فإن أسئلة ملحّة تصعد إلى ركح (مسرح) السياسة في الجزائر، لتبين عن أزمة حقيقية في جسم الدولة الجزائرية، على أهل الحكم فهم مغزاها ومعناها، وتدارك أمرها حتى لا ينفرط العقد الاجتماعي الذي لم يعد يربط بين مؤسسات الدولة وعموم الشعب، إلا بخيط رفيع لا يكاد يتماسك.
يؤشّر ارتفاع نسبة مقاطعة الاستفتاء على الدستور إلى 76.2% إلى أن الجزائر تغيرت، وتغيرت كثيرا، وليس في الاتجاه الذي تقوله رئاسة الجمهورية
أظهرت الانتخابات أخيرا عن أزمات متعدّدة، ومختلفة، ترقى إلى طرح سؤال شرعية الدستور بإلحاح. لم تتعوّد السلطة في الجزائر على طرح الأسئلة الصعبة والحقيقية، كانت تتجاوز الأزمات دائما بفرض أمر الواقع، وهو ما يجسّده التعامل حاليا مع الدستور الذي استفتي فيه الشعب، وغاب جله عن إبداء رأيه فيه. لا تخطئ العين حالة الاستعلاء التي يمارسها بعضهم من المقرّبين من سدة الحكم. وزيرة التضامن كوثر كريكو، وفي فيديو انتشر على مواقع الأخبار، رفضت أخذ ورقة "لا" واكتفت بورقة "نعم" قبل الإدلاء بصوتها في التعديل الدستوري، على الرغم من تنبيه إحدى المشرفات على مكتب الانتخاب بضرورة أخذ الورقتين معا، واختيار ما تراه في سرّية تامة. لكن الوزيرة تجاهلت التنبيه، وأمعنت في التباهي بنعم، ولسان حالها يقول، أن لا خيار إلا ما تقوله السلطة، أو هكذا فسّر متابعون ذلك التصرّف.
الجديد أن مناطق الجنوب، والتي كانت، إلى وقت قريب، ورقة السلطة الانتخابية تستعملها لإمالة الكفة لصالحها. لم تعد كذلك منذ مدة
يعتقد كثيرون أن سلوك وزيرة التضامن لم يكن فرديا، فالسيدة التي كانت عضوا سابقا في السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات، أصبحت عضوا في حكومة كثرت "هفوات" وزرائها. لم ينجل بعد غبار الزوبعة التي أثارها قول وزير الشباب والرياضة، سيد علي خالدي، في أثناء الحملة الانتخابية للدستور: "اللي ما عجبوش الحال يبدل البلاد"، فهل على 77% من الجزائريين الذين قاطعوا الاستفتاء على الدستور " تغيير البلاد" استجابة لدعوة الوزير، أم أن على السلطة، وبدل تبرير عثرات لسان وزرائها، العمل على النظر بجدّية في الأزمة السياسية الحقيقية التي آلت إليها الأمور بعد الاستفتاء على الدستور.
لقد تحوّلت حالة العزوف عن المشاركة في الانتخابات من ظاهرةٍ كانت تخص أقاليم معينة إلى مناطق أخرى كانت، إلى وقت قريب، تعتبر خزانا انتخابيا لم يتأخر عن كل المواعيد الانتخابية السابقة. قراءة بسيطة في النتائج تحمل دلالاتٍ ذات مغزى، فمنطقة القبائل، وخصوصا ولايتي تيزي وزو وبجاية، وصلت فيهما نسبة المشاركة إلى أقل من 1%. معناه ببساطة أن جهة كاملة من الوطن كانت غائبة عن الاستفتاء. تعدّدت الأسباب، والمبرّرات، والنتيجة واحدة. غياب كلي أو يكاد من المشاركة في العملية السياسية الحالية. غياب يحيل إلى التساؤل عن المستقبل الذي لا يمكن تجاهله، فعواقب الفراغ كارثية، خصوصا إذا ما استغلته أوساط غير وطنية، بمساعدة مؤسسات أجنبية لا تكترث لوحدة الوطن ولا لسؤدده.
لم تفهم أحزاب السلطة، ومن في فلكها، أن الجزائر بعد الحراك لم تعد نفسها قبله
الجديد أن مناطق الجنوب، والتي كانت، إلى وقت قريب، ورقة السلطة الانتخابية تستعملها لإمالة الكفة لصالحها. لم تعد كذلك منذ مدة. انتبه السكان إلى أن جنوبهم الزاخر بالنفط والثروات المعدنية والزراعية يرغب في مزيد من الاهتمام، والمشاركة في تسيير شؤون الوطن. ذهب زمن "الغفلة"، يقول سكان المنطقة ومناطق داخلية أخرى. لم تأت صياغة الدستور الجديد على ما يؤمنون به من ثوابت، لا تحيد عنها الأمة. عاقبوه بالمقاطعة. وهذه أصبحت تشكل حزب الأكثرية غير المهيكل. أما أحزاب السلطة فلم تتوار عن الأنظار، على الرغم مما طالها من خيباتٍ متكرّرة، سندها في ذلك مؤسسات السلطة التي ما زالت تطمع في حليب سياسي جفّ ضرعه.
لم تفهم أحزاب السلطة، ومن يدور في فلكها، أن الجزائر ما بعد الحراك لم تعد هي نفسها قبل الحراك، ففي النهر جرت مياه كثيرة. لم تعد خطابات اللغة المخشبة صالحةً في زمن اطلع فيه الشباب على حال الأمم الأخرى، فوجد نفسه متخلفا عن ركب الأمم، في بلدٍ أنهكه الفساد، فساد السياسة، وحرمة المال العام.