الثورة التونسية في ذكراها تشكو ثوّارها
استبق الرئيس التونسي، قيس سعيّد، المحتفلين بالثورة في ذكراها الثانية عشرة، وتبختر في شارع الثورة بالعاصمة طولاً وعرضاً، ودخل المقاهي، إلى أن وصل إلى المدينة العتيقة، ودلف منها إلى جامع الزيتونة المعمور، وصلى مع الناس هناك. وفي كل تلك المسافة الطويلة نسبياً، كان يسأل رعيته عن أحوال معاشهم، ويستبق إجابتهم ليتوعد من "نكّل بهم" من محتكرين وتجار فاسدين، ثم ينتقل بسرعة ليتوعد "الخونة" والعملاء المـتآمرين. معجم الرئيس لا يتغير عادة، وهو ما جعل الناس لا يصدّقون أن رئيسهم قال، بمناسبة عيد رأس السنة، في غفلة من نفسه: "إن تونس تتّسع للجميع". ومع ذلك، لم يدم هذا التفاؤل طويلاً، حين عاد الرئيس، بعد يومين تقريباً، إلى وعيده وتوعّده، ويصبّ حمم سخطه وغضبه على من يعتبرهم أعداء الوطن.
كانت جولة الرئيس في شارع الثورة تحدّياً للجميع. وهو لم يخف ذلك، حين قال إن عيد الثورة، حسب روايته الشخصية، هو يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول، الموافق لاندلاع الاحتجاجات على إثر تعمّد محمد البوعزيزي إشعال النار في جسده، حيث سيموت بعد أيام قليلة في مستشفى الحروق البليغة في ضاحية بن عروس من تونس العاصمة. تأتي جولة الرئيس تلك بعد خيبة الانتخابات التشريعية التي جرت قبل أسابيع قليلة، وسجلت أضعف نسبة مشاركة في العالم، حسب مختصين عديدين في الشأن الانتخابي، خصوصاً أن موجة من تصريحاتٍ أدلى بها خصومه، ذهبت شوطاً بعيداً حين دعته إلى الرحيل وتجنب المكابرة، حتى لا تنهار البلاد. كانت فسحة الرئيس استعراضاً للقوة: قوة الأجهزة الأمنية التي أمّنت جولته في سياقات صعبة، وجرأة الموقف، حين أعاد إلى الناس صورة الرئيس الماشي بين شعبه من دون وجل أو خوف. كان الرئيس المخلوع، بن علي، في مثل هذا اليوم بالذات (13 يناير/ كانون الثاني 2011)، متحصّناً بقصره يخاطب الناس من وراء الشاشة، وقصره مدجّج بالسلاح والحرّاس، ولكن ها هو سعيّد "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق". ثمّة اشتغال على الرموز، يبرع سعيّد في استثمارها، غير أنه سرعان ما يبدّدها، حين يفسد ثمارها لاحقاً.
لم تكن المظاهرت بحجم الآمال التي علقت عليها، فقد أرادها بعضهم حسماً للصراع وطيّاً لصفحة الانقلاب
بعدها بساعات قليلة، يستقبل الشارع نفسه ثوّاره، وقد حجّوا إليه مللاً ونحلاً، ردّدوا شعاراتٍ، بعضها من شعارات الثورة لمّا كانت قبل 12 سنة بكراً، وأخرى إقصاء متبادل ومحاكمات شعبية لهذا الطرف أو ذاك. لم تكن المظاهرت بحجم الآمال التي علقت عليها، فقد أرادها بعضهم حسماً للصراع وطيّاً لصفحة الانقلاب، ومثل هذه الأماني فيها مبالغة كثيرة، خصوصاً إذا شخّصنا بموضوعية ودقة موازين القوى، علاوة على تشتّت المعارضة. ومع ذلك، كانت هذه المناسبة بعيداً عن المقاربة الكمّية وحجم التعبئة على غاية من الأهمية، فقد جمعت لأول مرة هذا الطيف الواسع المتنافر: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. تحرّك الناس في مربع واحد، وجالوا في اليوم نفسه، في الشارع ذاته الذي ضمّهم ثوّاراً أسقطوا النظام قبل أكثر من عقد. حتى قبل انتخاب سعيّد، ظل التونسيون، في هذه الذكرى بالذات، منقسمين، فمن يحتفل بها اعترافاً بجميلها، ومنهم من يحييها لصبّ جام غضبه على من حكموا تحديداً. أما اليوم، فقد حجّ إلى شارع الحبيب بورقيبة جلّ هؤلاء، دفاعاً عن ثورتهم التي انقلب عليها الرئيس، وهدر كل ما منحته لهم: سماء واسعة من الحريات، فضاء عمومي شاسع إلى حد التيه والفوضى... ها هم اليوم، على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم، يقفون عند انحسار الحريات، وقد خط لهم الرئيس المرسوم عدد 45 الذي يرى، في كل نقد، جريمة وتطاولاً على رموز الدولة يستوجبان سنوات من السجن. وها هم اليوم يرون قضاة ومحامين ومدوّنين يُساقون إلى المحاكم من أجل موقفٍ لم يرُق السلطة.
مع ذلك، علينا أن نكون أكثر تواضعاً وحذراً، حين نقرأ النصف الفارغ من الكأس: لم تشهد تونس في هذه الذكرى تحوّلاً نوعياً يوحي أن الشارع الاجتماعي الكبير فئات اجتماعية مهمّشة، أحياء مُقصاة، شباب عاطل، قد انضم إلى المحتفلين بعيد الثورة في شارع الحبيب بورقيبة. ثم قطيعة ما بين هذا الشارع الواسع، المكتوي يومياً بغلاء الأسعار وندرة المواد الغذائية، وشارع النخب السياسية. كذلك علينا أن نعترف بأن الذين نزلوا، ورغم تقاسمهم الشارع نفسه، إلا أن خصوماتهم فيما بينهم ما زالت أكثر شراسة من خصومتهم الرئيس سعيّد.
يمكن أن يشكل ما حدث يوم السبت، 14 يناير/ كانون الثاني الحالي، نقطة تحول في الصراع الدائر في تونس حالياً مع سعيّد، إذا ما كنا أكثر تواضعاً واستطعنا استخلاص الدروس، لعل أهمها أن قوسي الانقلاب سيظلان يتمدّدان، ما دام الشرخ الرأسي بين مختلف الفرقاء لم يلتحم بعد.