التونسيون في شباك الأوهام
تونس مريضة ويشتد بها الوجع. يشعر الناس هذه الأيام وكأنهم في مصيدةٍ لا مهرب منها. لقد توالت المصائب بنسق أسرع مما كان من قبل. ويُفترض أن يكون الرئيس قيس سعيّد أكثر إلماما بما يجري في بلاده، بحكم كونه الذي تُعرض عليه في كل صباح تقارير أمنية وعسكرية تُطلعه على كل صغيرة وكبيرة، لأنه القائد الأعلى لتشكيلات القوات المسلحة المكلفة بحماية البلاد والعباد.
يحمد التونسيون ربّهم لأنهم لا يواجهون حاليا تهديدا خارجيا أو عودة عمليات إرهابية واسعة، مثل التي عاشوها قبل سنوات قليلة، فذلك أمرٌ حسمته الدولة بوسائلها، وساندها في ذلك شعبٌ لم تغره الحركات العنيفة بمحاولاتها اليائسة وخطاباتها المتطرّفة.
يواجه التونسيون تحدّياتٍ لا تقلّ خطورةً عن ذلك العنف المباشر، ويُخشى أن ما يحدُث حاليا قد يعيد تلك المشاهد، بطريقة مختلفة. يكمن الخطر هذه المرّة في أن معاشهم يتفكّك بنسق سريع، وأمنهم الغذائي أصبح مهدّدا بشكل غير مسبوق. صحيح لا توجد في تونس مجاعة كما يحصل في بلدان أخرى. ولكن في المقابل تراجع وضع الطبقة الوسطى بشكل حادّ، وتقلصت الفجوة بينها وبين الفقراء والأشد فقرا. فعندما تُفقَد بعض السلع الأساسية من الأسواق، وتنهار الخدمات الصحية داخل المستشفيات العمومية، ويتقلص عدد الأطباء من ذوي الاختصاص، وتُفقَد الأدوية الحساسة من الصيدليات، وتدخل المدارس مرحلة الفوضى وعدم الانتظام، ما جعل مائة ألف تلميذ يُحرمون تماما من التعليم بسبب نقص المعلمين والأساتذة الذين لم تدفع لهم أجورهم منذ أشهر، أو أنهم عاطلون عن العمل سنوات طويلة بسبب الأزمة المالية الخانقة وسوء التخطيط. عندما تُصبح الأوضاع على ما هي عليه اليوم، سيكون من الطبيعي أن يتغيّر مزاج المواطنين ويصابوا بالخوف والهلع، ويسكنهم إحساس غامض بأنهم ينساقون نحو الأسوأ، فيتوجهون إلى رئيس البلاد يسألونه عن الوعود التي غمرهم بها من قبل ومن بعد.
ألقى الرئيس سعيّد كلمة في افتتاح القمّة العربية. كان خطابا مشحونا بالنيات الطيبة وحب الخير للعرب، مؤكّدا بالخصوص على أنه "لن نخرج منتصرين ظافرين إلا بوحدة الصف ولمّ الشمل والقضاء على كل أسباب الفرقة والانقسام، والاتفاق والتكاتف". هذا قول صائب لا يختلف فيه اثنان. لكن ما جاء عليه كثيرون أن الأوْلى بلمّ الشمل هو الشعب التونسي الذي يعيش حالة تمزّق وإحساس بالضياع، ويحتاج بالخصوص إلى أن تترفّق به قيادته السياسية، وتُبعده عن أجواء التقسيم والتصعيد والتناحر والإقصاء. فهذا الشعب تعب من الحروب الكلامية التي كادت، قبل سنوات قليلة، أن تجرّه إلى حربٍ أهلية قبيحة، وهو يريد الآن أن يستقر ويطمئن ويعود له الأمل في حياة اقتصادية وسياسية وثقافية أفضل. لهذا السبب، لم يتفاعل التونسيون الذين استمعوا لخطاب الرئيس لا بحكم أنه ألقاه في الجزائر، وإنما أصابهم إحساس بالغربة، وشعر الكثير منهم بأن ساكن قرطاج لا يسمعهم، وغير مهتم بمشكلاتهم ومعاناتهم، وأنه لم يكن في تلك اللحظات مهتما بهم، وأنه كان مشغولا بمخاطبة غيرهم من شعوب المحيط إلى الخليج.
يقول أنصار الرئيس قيس سعيّد إنه ليس مسؤولا عن هذه الأوضاع المتردّية. وهم محقّون في ذلك، لأن الأزمة الاقتصادية لم تبدأ مع الخامس والعشرين من يوليو/ تموز 2021، بل ظهرت ملامحها منذ وقت مبكّر، فالثورة لم تنفجر إلا بسبب هذه السياسات المستمرّة. لكن هذه الرواية ليست سوى نصف الحقيقة. النصف الذي لا يريد هؤلاء الاعتراف به أن هذه الأوضاع لم تتحسّن رغم إلغاء البرلمان وإصدار دستور جديد، كما أن خط الانحدار لم يتوقف، بل واصل تراجعه إلى الخلف بطريقة دراماتيكية. وهذا يعني أن العلاج الذي جرى اللجوء إليه ليس ناجعا، وأضرار الدواء المعتمد أكثر بكثير من نفعه.
ينصح هؤلاء بعدم التسرّع. الصبر على مرارة الدواء جزءٌ أساسي من العلاج. على التونسيين التوجه أولا إلى صناديق الاقتراع، واختيار "ممثليهم الجدد" الذين سيعدون السياسات البديلة، وستشرع الحكومة المقبلة في تنفيذها. عندها فقط، ستتغير أوضاعهم، وسيعيشون الانفجار الثوري الحقيقي.
لا يهم هؤلاء عامل الزمن، ويفترضون أن الشعب سينتظرهم حتى يكيّفوا المؤسسات وفق النظرية التي يدافعون عنها، والتي بفضلها سيضعون الحصان أمام العربة. هذا وهمٌ قد يصل إلى درجة العبث.
كيف سينتخب التونسيون برلمانا جديدا وهم على هذا الحال من الخوف والحيرة وعدم الاهتمام بالسياسة والسياسيين؟ سؤال جوهري يفترض أن يطرحه الرئيس وأنصاره، قبل أن يواصلوا السير بالبلاد نحو المجهول. النيات طيبة بدون شك، لكنها غير كافية لإقناع التونسيين بأن الأجواء وردية، وأن مستقبلهم سيكون أفضل.