التطبيع وضمير الأمّة
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
هل أفَلَتْ موضة القوميّة والوطنيّة، وهل بات المرءُ مجبراً على الانتماء لما يُحبّ بعضُهم تسميته الإنسانية أو الإبراهيمية أو الشرق أوسطية، والتخلّي عن رابطة لا بدّ من أن تُشعره بشيء من القرب والتواصل والحميمية، أم هي مجرّد أوهامٍ يحاول النسق الغربي فرضه على العالم أجمع ليبقى أسير مصالحه ورغباته؟ هل يمكن للمرء أن ينسى صراعاً عمره مئات السنين بجرّة قلمٍ من الحاكم، وهل يمكن أن يخلع المرء جلده كما يخلع العباءة عن كتفيه إرضاءً لنزوات السلطة؟ ومن قال إنّ السياسة تأتي بالحقيقة دوماً، وإنّ الحفاظ على السلطة أقدسُ من الأخلاق والمشاعر وكلّ القيم. هل بات التمسّكُ بشيء من الكرامة مدعاةً للمُساءلة، وهل هانت على بعضهم مروءته ليجد في عدم مصافحة سفير العدوّ جريمة ومهانة للدولة العليّة.
أسئلة يطرحها المرء على نفسه، عندما يسمع في الأخبار عن إقالة الشيخة ميّ بنت محمد آل خليفة من منصبها بسبب امتناعها عن مصافحة السفير الإسرائيلي في البحرين، ويحضرُ المرءَ فوراً ردُّ معاوية بن أبي سفيان، صحّت الواقعة أم لا، على ملك الروم عندما خاطبه محاولاً إيغار صدره تجاه خصمه السياسيّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، عارضاً نصرته بمواجهة الأخير، بأنّه اختلف مع أخٍ له، وإن لم يرعوِ، لجاءه بجيش أوّله القسطنطينية وآخره دمشق. أليست المقارنة مؤلمة بمقدار ما هي حقيقية؟ وهل بات التمييز بين ماضٍ تليد كان لنا فيه السبق وحاضر سقيم لنا فيه القبرُ دون العالمين لا الصدرُ مؤلماً وقاتلاً كأنّه الكُفرُ البواح.
شكل من الدول لا يمكن أن يُنتج مواطنة ومواطنين، بل رعايا يدورون وجوداً وعدماً مع وجود السلطان وإرادته
يقوم الدين أساساً على مبدأ الوحدانية، وحدانية الخالق في علاه، وباعتبار أنّ الخلفاء الراشدين قد اتّبعوا نهج الرسول صلى الله عليه وسلّم، وتبعهم في ذلك جميع الخلفاء، فيما يصفه مضر بالدبس بمصطلح المناهجة، فقد تجسّدت فكرة الحلول هذه في السياسة بطريقة جعلت من الخليفة ظلّ الله في الأرض، أي إنّ الحاكم يجسّد الأوامر والنواهي كما هي من عند الله من خلال سلطته، ومن هنا جاءت مقولة "إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وكذلك "القرآن بين دفّتي المصحف لا ينطق، إنّما يتكلّم به الرجال".
بهذا تجسّدت تلك المسألة في الواقع السياسي للدول السلطانية عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، بوحدانية الحاكم وليّ الأمر، وهذا الأخير لا يقيمُ العدل ولا يرعى شؤون المؤمنين إلا مرضاة لربّه، وبالتالي، يعمل سعياً وراء نجاته في الآخرة من حساب ربّ العباد، فلم يكن السلاطين يعملون لتحقيق مصالح الرعيّة المجرّدة، بل كان سعيهم، الديني إن صحّ التعبير، لخلاص أرواحهم وأنفسهم يوم القيامة، وبالتالي تبقى مصائرُ الرعيّة معلّقة بعمق إيمان الحاكم وبشكل هذا الإيمان وبطريقة تعبير الحاكم عنه. هذا هو جوهر الدول السلطانية التي ما تزال قائمة في كثير من بلداننا العربية، سواء أكانت ملكيةً أم جمهورية. وهذا الشكل من الدول، لا يمكن أن يُنتج مواطنة ومواطنين، بل رعايا يدورون وجوداً وعدماً مع وجود السلطان وإرادته.
كلّ الدولة مسخّرة لحفظ سلالة الحاكم السلطان، فلا الأمن القومي يُحسب له حساب، ولا كرامة الدولة لها قيمة
كيف يمكن أن يأمن شعبٌ ما في إحدى الدول السلطانية هذه على مستقبل الأولاد والأحفاد والبلاد، ما دامت كلّ الدولة مسخّرة لحفظ سلالة الحاكم السلطان، فلا الأمن القومي يُحسب له حساب، ولا كرامة الدولة لها قيمة، ولا العزّة الوطنية موضع احترام وتقدير، ولا شيء يمكن أن يُقدّر في ميزان الربح والخسارة هذه. هل يعتقد هؤلاء أنّهم سيكبرون بعيون الأعداء كلّما ازدادوا انبطاحاً واستسلاماً وخنوعاً. ألا تحضرهم المقارنة مع المغنّية الإسرائيلية يوفال ديان حين امتنعت قبل أيامٍ عن مصافحة جو بايدن، رئيس أهمّ وأقوى دولة، ألم تبرّر موقفها بأنّه عائد لأنها جاءت من خلفية دينية قد لا يفهمها كثيرون، ولديها رغبة في الحفاظ على نمط حياتها من اللباس واللمس، إذ لم يسبق لها أن لمست المخّدرات ولا ظهرت مخمورة على خشبة المسرح من قبل. أليس في احترام الرئيس الأميركي قرارها إعلاءٌ لشأنها، لماذا لم يمنعها أحدٌ في إسرائيل من مقابلة الرئيس رغم تصريحها المسبق برغبتها عدم مصافحته، ولماذا لم تجر معاقبتها على موقفها هذا؟
هذا غيضٌ من فيض القهر الذي ينتاب المرء كلّما يرى ويسمع ما يحصلُ في عوالم الدول العربية، وهذا بعضٌ مما أنزله بنا اعتمادُ الحكّام العرب على غير شعوبهم في حماية دولهم وعروشهم، حتى باتوا أمواتاً ويحسبون أنفسهم أحياءً يحكمون! ماتوا في قلوب وعقول شعوبهم، وسقطوا من عيون الغرباء حين باعوا جلدهم وارتدوا جلد أعداء أممهم. لم لا، فمن يهن يسهل الهوانُ عليه، ما لجرحٍ بميّت إيلامُ. لكنّ ضمير الأمّة لا يموت، وها هو يظهر ساطعاً جلياً سطوع الشمس في رابعة النهار بسلوك الأصيلات من بنات العرب، بموقف الشيخة مي التي استحقّت العقاب الملكي، لكنّها فازت باحترام وتقدير ملايين من أبناء الأمّة الحيّة التي لن تموت.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.