التصالح مع اليأس
في مشروع دستور العراق الذي نُشر في يوليو/ تموز 1990، ولم يصوّت عليه أو يُقرّ، (ربما بسبب غزو الكويت بعد ذلك بشهر)، نجد مثالاً جيّداً عن رؤية حزب البعث، الحاكم في العراق آنذاك، لشكل الدولة وهويتها، ونظرة النظام إلى المجتمع وفئاته. وعلى الرغم من الثقة المفرطة التي تعبّر عنها مواد ذلك الدستور للدور الكبير الرمزي والمعنوي لحزب البعث ومبادئه و"ثورة" 17 - 30 تموز (1968)، فإن المواد المتعلّقة بالحرّيات، أو العمل السياسي، مقيّدة، وتشير إلى نوع من الحذر والتوجّس إزاء الاستعمالات الخطرة لهذه الحريات التي قد تهدّد النظام.
خلاصة ما يتحدّث به هذا الدستور بشأن الحرّيات والعمل السياسي أنك حرّ، شرط أن لا تعمل ضد مبادئ الحزب والثورة! بما يوحي بأن الحياة السياسية المقترحة لا تعني تنافساً على السلطة، وإنما عملاً تحت يدها وسطوتها، وأن لا يظنّ أحدٌ بأنه قادرٌ على إزاحة الحزب وقائده بالوسائل السلمية، بل من الجريمة التفكير بذلك. ورغم ما يقترحه من شكلٍ غريبٍ ومحدّد جداً لنوع الحريات السياسية، فإن هذا الدستور، على أي حال، لم يُعمل به، ودخل العراق بعدها في دوّامة غزو الكويت وحرب 1991.
إن بدستورٍ أو بغيره، كان نظام صدّام حسين يرى أي طموح لإزاحته عن السلطة نوعاً من الخيانة التي لا يجب أن يفكّر بها المواطن الشريف! ومن الغريب أن هذا ما يمكن أن نستنتجه أيضاً من قراءة العقل السياسي العراقي الحالي. هذا على الأقل ما يؤمن به المحبطون من فاعلية العملية الديمقراطية في تغيير معادلات السلطة في العراق، فبدلاً من حزب البعث وصدّام، هناك قادة لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين يتحكّمون بالمشهد السياسي، باعتبارهم "آباء" غير متوّجين للنظام السياسي. وبدلا عن حزب البعث، هناك كارتل من أحزابٍ تستعمل الأدوات العنفية ذاتها وتستثمر موارد الدولة في استمالة المواطنين أو ترهيبهم وإخضاعهم، وهي الآلية الصدّامية البعثية السابقة نفسها.
ظلّ هامش المخالفة والاعتراض على النظام السياسي وأحزابه يتقلّص شيئاً فشيئاً، حتى وصلنا اليوم إلى حالة من الصمت والموت السريري لأصوات معترضة كثيرة، كما أن استجابة الجمهور العام الطامح إلى التغيير صارت أضعف بسبب اليأس والإحباط. وهذا ما يفسّر أن الجو العام الذي تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي في العراق لم تنشغل بشكلٍ كافٍ بانتخابات مجالس المحافظات، ولم نجد سجالاتٍ جديّة، ويقابل الرأي المشجّع على التصويت بالسخرية.
إنه شيء يذكّرها بالكفّ الذي يناله الابن من أبيه، حين يتحدّث هذا الابن بشيء مسيء تجاه صدّام أو نظامه في تلك الأزمنة، فالأب هنا ليس مؤيداً لصدّام، وإنما يؤمن بعدم جدوى الوقوف ضدّه. الأب متصالح مع اليأس، وهذه مرحلة خطيرة، لا نتمنّى أن نصل إليها اليوم.
عدم الإقبال على التصويت في الانتخابات، بما يشكّل ظاهرة ملفتة، يُضعف شرعية النظام، ويجعله هشّاً، بمعنى أن الناس لن تدافع عنه أو تتأثر حين تجده تحت تهديد السقوط. كما أن الاعتماد على السطوة والعنف والابتزاز لملء فراغ الشرعية يعمّق الهوّة بين الناس والنظام السياسي.
واحدة من التحليلات التي تفسّر سقوط النظام الملكي في 1958 على يدّ ضباط مغامرين أن الطبقة السياسية الملكية، وعلى رأسها نوري السعيد، لم تفكّر بتربية جيلٍ جديدٍ من السياسيين، يأخذون الدفّة من الحرس القديم، ولم يفكّر السعيد وصحبه بأنهم صاروا عجائز، وأن عليهم التقاعد وترك المجال لشبابٍ يفهمون العالم أكثر منهم. وعلى خلاف ذلك، ساعدت الثقة المفرطة بالنفس الحرس القديم على انفصالهم عن الواقع شيئاً فشيئاً.
يرتاح كارتل الأحزاب الحاكمة لفكرة أنهم حدّوا من قدرة تهديد سلطتهم، وينسون مثال صدّام، وينسون أن كنس المشكلات تحت السجّادة لا يعني اختفاءها.