الانتخاب في ظل الانقلاب
ظلّ سؤال الشرعية يلازم الأنظمة السلطوية بمختلف مكوناتها السياسية، فقد عجزت دول ما بعد الاستقلال، سواء في المنطقة العربية أو في أفريقيا، عن إيجاد السبل المُثلى للحفاظ على هيكل الدولة، عبر دساتير لا يمكن التلاعب بها وتداول سلمي على السلطة، فهذه الأنظمة سليلة الانقلابات، العسكرية منها والمدنية، تعلم أنها بحاجة إلى مظهر ديمقراطي وانتخابات دورية، والغاية ليست التعبير عن توجّهات المواطنين بقدر ما يتعلق الأمر برسائل موجّهة إلى الخارج لإقناع المانحين والحلفاء بأن هذه الأنظمة مستقرّة وقادرة على الاستمرار.
تميل أنظمة الاستبداد إلى التلاعب بالقانون الانتخابي من جهة والتحكّم بالجانب الإجرائي للاقتراع بما يمنع خروجها عن سيطرة النظام، وهو ما يتم غالبا عبر تزوير الانتخابات بأشكال مختلفة. وفي النماذج المختلفة التي عرفتها المنطقة العربية، نلاحظ هذا الحرص الدائم على إغلاق منافذ التغيير الانتخابي، ففي التجربة التونسية زمن حكم زين العابدين بن علي، ظل النظام يغيّر قواعد اللعبة طوال عقدين، ورغم إجراء الانتخابات الرئاسية خمس مرّات، كان واضحا أن قانون اللعبة لا يخرج عن جانبين، أولهما ترسيخ فكرة الحاكم الذي لا يمكن تغييره، والذي يفوز دائما باكتساحٍ لا يقلّ عن نسبة 90% من الأصوات. والجانب الثاني، السماح لمرشّحين شكليين ممن يتم اختيارهم لإضفاء مزيد من الزينة على العملية الانتخابية الفاقدة شروطها الضرورية، أعني حرّيتي الترشّح والتصويت. ويمكن تعميم هذا النموذج على حالاتٍ مشابهةٍ في دول عربية وأفريقية متعدّدة.
ظلّ إسقاط الأنظمة السلطوية عبر الانتخابات أمراً تحوطٌه محاذير كثيرة
قطع الطريق أمام التغيير عبر الانتخابات لا يعني عدم حصول حالاتٍ جرى فيها قطع الطريق أمام استمرار الدكتاتور في الحكم عبر الصناديق، وهو ما حصل في نماذج مختلفة، مثلما هو الحال في انتخابات صربيا (أكتوبر/ تشرين الأول 2000)، أو انتخابات جورجيا سنة 2003 التي انتهت بتظاهراتٍ سلمية أفضت إلى استقالة إدوارد شيفاردنادزه. وأيضاً ما جرى في ساحل العاج، عندما أعلن لوران غباغبو نفسه فائزاً على الرئيس العسكري روبار غي في انتخابات الرئاسة سنة 2000. غير أنّ ظروفاً خارجية غير معتادة صاحبت هذه النماذج، وأدّت إلى نتائج خالفت تطلعات الشعوب، ففي النموذج الصربي استفاد المعارضون من عزلة الرئيس الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش وحالة الحصار المفروضة عليه دولياً، وهو ما ساعدها على إجباره على التنازل عن الحكم. وفي النموذج الجورجي، عمد الرئيس الجديد ميخائيل ساكاشفيلي إلى اعتماد الأساليب نفسها غير الديمقراطية للبقاء في السلطة. وفي النموذج الأفريقي بساحل العاج، رفض غباغبو الاعتراف بهزيمته في انتخابات 2010، وهو ما أدّى إلى حرب أهلية قصيرة، وتدخّل القوات الفرنسية التي قبضت على غباغبو، وسلمته إلى القوات المؤيدة للمعارضة.
لهذا، ظلّ إسقاط الأنظمة السلطوية عبر الانتخابات أمراً تحوطه محاذير كثيرة. ولا يمكن أن يتحقق من دون شروط في الداخل ودعم من الخارج، فمن الممكن أن يخسر النظام السلطوي الانتخابات، ويظل في الحكم على الرغم من ذلك، ويؤدّي هذا إلى أن تصبح الانتخابات العامة مناسبة لإحداث الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي بين النظام والمعارضة، نتيجة للتدخّل الإداري لإقصاء مرشّحين معارضين عن التقدّم بأوراق ترشّحهم، والتضييق على حملاتهم الانتخابية والضغط على مؤيديهم. وإذا فشل كل ما تقدّم يكون اللجوء إلى تزوير الانتخابات، ويؤدي هذا بدوره إلى فقدان الأمل في التغيير السلمي، ويفتح الباب أمام انقلاباتٍ جديدة أو ثورات شعبية.
المقاطعة الانتخابية تشكيك فعلي في شرعية النظام ورفض لأدوات حكمه
السيناريو الأسوأ الذي تتحسّب له هذه الأنظمة، وتحاول التعتيم عليه، هو المقاطعة والعزوف الشعبي عن التصويت، إذ يصعب التستر على المقاطعة في ظل ثورة الاتصالات الحديثة، فالمقاطعة الانتخابية تشكيك فعلي في شرعية النظام ورفض لأدوات حكمه. ومهما حاول رأس النظام إيجاد مبرّرات لضعف المشاركة، لن يكون التبرير مقنعاً، خصوصاً في ظل التقارير الإعلامية وتقارير البعثات الدبلوماسية التي تستند إليها الدول الأجنبية للحكم على مدى تجذّر النظام القائم وقدرته على الاستمرار. وفي النموذج التونسي، مثلاً، شكّلت المشاركة الانتخابية الضعيفة في الانتخابات البرلمانية لسنة 2022 هاجساً للسلطة القائمة التي تسعى إلى تصوير إجراءاتها ضد الحكم الديمقراطي أنه مطلب شعبي، وليس توجّهاً فردياً تحاول السلطة فرضَه على الناس.
تفقد الانتخابات في ظل النظم الانقلابية دورها بوصفها أداة إجرائية لترسيخ الديمقراطية، فالأنظمة السلطوية تعتبر الانتخابات أداة لتوطيد أركان نظام الحكم القائم، ومناسبة لتجديد شرعيته المفترضة، بينما هي في جوهرها فرصة للمشاركة في العملية السياسية، ولوضع الأساس للتداول السلمي على السلطة، وهو ما يتناقض مع طبيعة الأنظمة الانقلابية التي لا يمكن أن تبارح مواقعها السلطوية إلّا عبر الثورة الشعبية.