الانتخابات المحلية التونسية أو لزوم ما لا يلزم
الانتخابات المحلية التي شهدتها تونس 24 ديسمبر/ كانون الأول الجاري هي المحطّة الانتخابية الرابعة بعد استفراد الرئيس قيس سعيّد بالحكم يوم 25 يوليو/ تموز 2021، فقد سبقتها الاستشارة الشعبية الإلكترونية والاستفتاء على الدستور يوم 25 يوليو/ تموز 2022 والانتخابات البرلمانية في دورتين يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها و29 يناير/ كانون الثاني 2023.
تم التمهيد لليوم الانتخابي بحملة انتخابية باهتة، لا توحي البتة بوجود انتخاباتٍ ستنبثق عنها مؤسّسة تشريعية ثانية لا تقلّ أهمية عن البرلمان، فغابت عنها الدعاية الانتخابية والاجتماعات الشعبية والأنشطة الجماهيرية والمعلّقات التعريفية والمهرجانات الخطابية والمناظرات السياسية والفكرية والصفحات الاتصالية، فلا شيء كان يشي بوجود عرسٍ انتخابي ورغبة في التنافس النزيه، بهدف تولي الشأن العام وخدمة الآخرين.
نبّهت قوى مدنية وسياسية كثيرة مساندة ومعارضة للرئيس سعيّد إلى ضرورة تأجيل الانتخابات المحلية أو إلغائها، فهذه الانتخابات ليست ذات أولوية في ظل الألم الذي يعيشه التونسيون من جرّاء المجازر المرتكبة في حقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة على أيدي قطعان الجيش الصهيوني وارتقاء آلاف الشهداء، ما جعل من هذه القضية تحتلّ الأولوية في اهتماماتهم، هذا إضافة إلى الوضع المتأزّم داخليا الناتج من فقدان المواد الأساسية، ما يجعل الوقوف في الطابور من أجل الحصول على علبة حليبٍ أكثر أهمية من الذهاب إلى مركز الاقتراع.
88.34% من الناخبين قاطعوا الانتخابات المحلية بوعي مسبق منهم
أعلنت الهيئة المستقلّة للانتخابات عن النتائج الأولية للانتخابات المحلية، التي ستُفضي لاحقا إلى تشكيل الغرفة البرلمانية الثانية، أو ما بات يعرف في المعجم السياسي التونسي بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم، من دون أن يشهر أي كان احتفاله بالفوز، وقد انتهت إلى مشاركة 1059004 ناخبين من بين 9080987 يمثلون الجسم الانتخابي التونسي بنسبة 11.66 بالمائة. ويمكن أن تُقرأ هذه النتائج بطريقة مغايرة تسمح بالقول إن 8021983 بنسبة 88.34% من الناخبين قد قاطعوا الانتخابات المحلية بوعيٍ مسبقٍ منهم، مكرّرين، للمرّة الثانية على التوالي، الموقف الانتخابي الرافض نفسه، فلا ينبغي أن تغيب عن الذاكرة مقاطعة 89% من التونسيين الانتخابات التشريعية التي أفضت إلى تشكيل البرلمان.
خصّت الهيئة الانتخابية الانتخابات المحلية بموازنة قدرها 40 مليون دينار (14 مليون دولار)، يتمّ إنفاقها على عملية انتخابية فاقدة المشروعية والجدوى السياسية، رأى متابعو الشأن السياسي التونسي، كما عبّر عنه بعض الصحافيين ممن حضروا الندوة الصحافية التي نظّمتها الهيئة بعد غلق مكاتب الاقتراع للإعلان عن النتائج الأولية، أن تلك النفقات هدر للمال العام وإنفاق مال دافعي الضرائب في غير موضعه في ظل انتشار الفقر والبطالة وفقدان المواد الأساسية. وسيتضاعف هذا الهدر بالإنفاق على غرفتين برلمانيتين عدد نوابهما 238 نائبا (161 نائبا للغرفة الأولى و77 للغرفة الثانية)، بعد أن كان عدد نواب البرلمان السابق الذي حلّه سعيّد 217.
وسيكون من آثار النتائج الانتخابية المحلية الهزيلة ولادة مجالس الجهات والأقاليم والمجلس الوطني لتلك الجهات والأقاليم الذي سيتم اختيار أعضائه الـ 77 عن طريق القرعة من بين منتسبي المجالس المذكورة، فاقدة للتمثيلية والمشروعية الشعبية، ففي التجارب المقارنة عندما تعرف المقاطعة أو العزوف نسبا قياسية، كما الأمر في الحالة التونسية، تُلغى النتائج وتعاد الانتخابات لإنقاذ المؤسسات التشريعية من فقدان المصداقية وعدم القبول بما تضعه من تشريعات.
فشل الانتخابات التونسية مرّة أخرى في أقل من سنة مرجعه عدم واقعية مشروع الرئيس وبنائه القاعدي ومقاربته في الحكم
تجاهل الرئيس قيس سعيّد نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2022 التي أفضت إلى برلمان لا يمكنه تمثيل الشعب ووضع القوانين باسمه، مهما ادّعى من شعبية، لكنه لا يستطيع ممارسة السلوك السياسي نفسه، وتجاهل نتائج الانتخابات المحلية، فهذا السلوك الانتخابي المتكرّر يعكس موقفا شعبيا رافضا لمشروع الرئيس السياسي والبناء القاعدي المزعوم، الذي جعل من تونس مخبر تجارب سياسية لأفكار طوباوية وإحياء نزعات قبلية وسلوكيات عشائرية.
فشل الانتخابات التونسية مرّة أخرى في أقل من سنة مرجعه عدم واقعية مشروع الرئيس وبنائه القاعدي ومقاربته في الحكم، القائمة على تبجيل الفرد، والإعلاء من شأنه وجعله مصدرا للشرعية وقيمة في حدّ ذاته، من دون النظر إلى مكتسباته وخبراته وتجاربه ومحصلاته العلمية والمهنية والمسؤوليات السامية التي قد يكون تولاها ونضالاته التاريخية وتضحياته من أجل خدمة الآخرين، مثلما هو الأمر في تشكيل الغرف الثانية في العالم، بوصفها مجالس الحكمة والحكماء، وتضمين ذلك كله في القوانين الانتخابية. وقد استند الرئيس في توجّهه إلى حجة إعطاء الفرصة للمهمّشين، كما جاء في كلمته على هامش الإدلاء بصوته، الأمر الذي سينتهي إلى مجالس تغيب عنها نخب البلاد الفكرية والأكاديمية والقانونية والاقتصادية والمالية، ما يستوجب رصد أموال إضافية لإخضاع أعضائها إلى دورات مستمرّة تكوينية وتثقيفية.
لم يفلح إعلاء الرئيس من شأن المهمّشين واعطاؤهم فرصة قيادة الدولة تشريعيا في أن يكونوا محلّ ثقة الشرائح والطبقات الشعبية الواسعة والتدافع من أجل انتخابهم، كما لم تفلح صورة الرئيس وهو يمارس الاقتراع، وصور رئيسي الحكومة والبرلمان، المنشورة منذ الصباح في الصفحات الأولى لوسائل الإعلام والسوشيال ميديا في تحريض الرأي العام الانتخابي واقتداء الناخبين بهم والإسراع إلى مراكز الاقتراع، ذلك أن نسب المشاركة الضعيفة بيّنت بوضوح أن القادة الثلاثة الأول في الدولة، بمن في ذلك الرئيس سعيّد، صاحب مشروع الحكم والجمهورية الجديدة، لم يعودوا المثال المحتذى من عامة الناس وجمهورهم الواسع.
الأحزاب السياسية هي الوحيدة القادرة على التعبئة الانتخابية الرئاسية والتشريعية والمحلّية، وإعطاء الانتخابات معنى
بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات المحلية مباشرة، وما انتهت إليه من معطياتٍ مسيئة للتجربة الديمقراطية التونسية والإرث السياسي والانتخابي النيّر الذي عرفته تونس عشر سنوات (2011 - 2021) بدأت الأصوات تتعالى من داخل قوى الموالاة وجبهات المعارضات، داعية الرئيس سعيّد إلى إعادة النظر في مشروعه السياسي برمّته، وهو مشروع لم يفلح في التعبئة السياسية والحفاظ على مصداقية العملية الانتخابية، بل ضرب العملية الديمقراطية القائمة على الوسائط المدنية والحزبية والإعلامية في مقتل، ولم يفلح كذلك في دفع الضرر عن التونسيين من جرّاء الفقر والجوع وفقدان مرفقات الحياة الأساسية وفي حماية الاقتصاد والمالية العمومية من التآكل بسبب المديونية المشطّة والإمعان في الجباية.
ولا يبدو أن بديلا عن الأحزاب السياسية، التي سعى الرئيس سعيّد إلى تهميشها وإلغاء أدوارها، قد لاح في الأفق، فهي الوحيدة القادرة على التعبئة الانتخابية الرئاسية والتشريعية والمحلّية، وإعطاء الانتخابات معنى، وهي المؤهّلة لإقناع الرأي العام بالمشاركة عبر تنظيم حملات انتخابية جدّية وتجنيد الناخبين، ولا خيار لإنجاح الانتخابات من إعادة الاعتبار للأجسام الوسيطة وإعطاء دور حقيقي لوسائل الإعلام والاتصال للتعريف بالمترشّحين وببرامجهم وفتح أبواب التناظر السياسي بينهم، أما دور المجتمع المدني فهو رقابي بامتياز.