الاستيلاء على أملاك العراقيين
قبل سنوات، أخطأ سائق تاكسي كان يقلّني، فانحرف بسيره ومرّ بي من سيطرة عسكرية من خلف قصر السلام الحكومي ببغداد. توقّف لثوانٍ وضحك مع الجنود، وسمحوا له بالمرور، وفجأة وجدتُ نفسي في بغداد أخرى! شوارع نظيفة، وواجهات بيوت خالية من الملصقات والشعارات وصور السياسيين ورجال الدين و"يوجد لدينا كرين"، بلا تغليف لواجهات البيوت بألوان صارخة. لا باعة على الأرصفة ولا زحام في الشوارع ولا منبّهات لسيارات، ولا سيطرة من أي نوع. مجرّد شوارع أنيقة نظيفة في حيّ سكني هادئ، مليء بالأشجار.
بعد دقيقتين عرفت أن السائق لم يخطئ، وإنما هو أمر معتاد عنده. انحرف يميناً وخرج من هذه الجنّة المسوّرة داخل بغداد، ليعود من نقطة سيطرة أخرى إلى داخل بغداد التي أعرفها، حيث الزحامات والشتائم من السائقين والأزبال والصور والشعارات. أوضح لي السائق أنه منتسب في الأمن الداخلي، وأن رجال السيطرة يعرفونه، وما بين السيطرتين هو حيّ سكني كامل، استولت عليه جهة سياسية وسوّرته وجعلته ملكاً صرفاً لها، بعد تهجير سكّانه الأصليين، بـ"بالعيني والأغاتي" أو بالتهديد والإرهاب.
اتّضح لي بعد سنوات أن كل رجال الطبقة السياسية يعتمدون الطريقة ذاتها: يقيمون جنّاتهم الخاصة داخل الخراب، ولا شأن لهم بسكّان الجحيم الأرضية وكيف يعيشون وما هو مستقبلهم. خصوصاً لأنهم اطمأنوا أن سكان الجحيم سيصفّقون لهم حين يظهرون فجأة عليهم، يقبّلون أياديهم، ويشكرون نعمة الله الكبيرة التي جعلت هؤلاء قادة عليهم. يسومونهم سوء العذاب، ويبيعون عليهم حلو الكلام من الشعارات الفارغة، فلا يهتزّ في كرامتهم شيءٌ ولا هم يشعرون!
تذكّرت هذه الحادثة بعدها بفترة حين أخبرني صديق يعمل فنيّاً في إحدى القنوات التلفزيونية، بأن والده، وهو موظفٌ في بلدية الكرّادة، أحد أحياء رصافة بغداد الراقية والعرقية، اضطرّ إلى رفض المصادقة على بيع معمل البيبسي الحكومي، لإحدى الجهات السياسية التي اشترت كل الأرض المحيطة بالمعمل، وتريد ضمّ المعمل إلى أملاكها الجديد. ولكن، ماذا كانت النتيجة؟ لقد التفّت هذه الجهة السياسية على الرفض القانوني، واستحصلت الموافقة على شراء أرض المعمل، ومن ثمّ هدمه وتوحيد أرضه مع الأراضي المحيطة به التي اشترتها هذه الجهة السياسية.
كتبنا كثيراً وكتب آخرون عن ممارسات النظام السابق، وكيف أن بعض رجالاته كانوا يستولون على أملاك المواطنين من دون خشيةٍ من نظام أو قانون، وكانت القصص المرتبطة بممارسات من هذا النوع من الشائع بين الناس، لبيان عسف نظام صدّام وظلمه. وللأسف، مارس رجالات النظام الحالي ما هو أتعس وأسوأ مما قام به نظام صدّام في الاستيلاء على أملاك المواطنين.
لقد توزّعت ممتلكات النظام السابق العقارية وبيوت قادته على رجالات النظام الحالي وأزلامه، وما زال بعض القادة الجدد، منذ 20 سنة، يقيم في بيوت عزّت الدوري ورغد صدّام حسين وطه ياسين رمضان وغيرهم، بعقود إيجار مع الدولة بقروش قليلة تافهة، فضلاً عن تحويل أملاك عديدة تركها أصحابها إلى حسابهم الخاص.
لقد استولت إحدى الجهات السياسية، وعلى نطاق واسع، بعد العام 2003، على أراضٍ مملوكة للدولة، وقطّعتها على شكل أراضٍ سكنية وباعتها للمواطنين المتعطّشين لبناء البيوت، وتحوّلت هذه المساحات إلى أحياء عشوائية جديدة في قلب بغداد وضواحيها، وفي مدن ومحافظات عديدة، من دون أي محاسبة قانونية تُذكر... عملياً، قامت أحزاب النظام السياسي الجديد وتيّاراته منذ 2003 بكل ما كانت تتّهم به نظام صدّام حسين من تهم. ويمكن القول بجرأة إنها زادت عليه وجوّدت وحسّنت من ممارستها الظلم والطغيان.
وإذا كانت الدولة وأملاكها نهباً بين هذه الأحزاب، فإن المواطن العراقي الذي يتعرّض للظلم لا يجد في الدولة أي سند أو حامٍ ومدافع عن حقوقه، وقد يلجأ الى العشيرة وذراعها الباطشة، أو يذهب ليطرق أبواب مرجعيّة النجف، وهذا ما حصل، أخيرا، مع مواطنين حاولت إحدى الجهات السياسية المسلّحة الاستيلاء على أراضيهم في وسط بغداد، فذهبوا لطرق باب المرجع الشيعي الأعلى في النجف لأنها يئست من قانون الدولة. وقبل سنوات، فعلت بعض العوائل المسيحية شيئا مشابهاً بذهابها إلى بيت مقتدى الصدر، للطلب منه أن يدعو إلى إعادة أملاكها التي استولى عليها أفراد محسوبون على المليشيات المسلّحة.