الاستجابة الشعبوية للتحديات
تزامناً مع أنباء مفجعة عن تراجع مناسيب المياه في سدّ الموصل ومستوى الماء في نهري دجلة والفرات في جنوب العراق، يعلن رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، عن "نيّته" إطلاق حملة لزراعة خمسة ملايين نخلة في عموم البلاد، وكذلك ظهر رئيس الجمهورية، عبد اللطيف رشيد، بتصريحٍ مشابهٍ عن تشجير بغداد. والغريب أنّ تصريح رئيس الجمهورية (لم يحفظ عراقيون اسمه بعد!) جاء بعد أسابيع من إزالة أمانة بغداد أشجاراً تاريخية من أرصفة شوارع حيّ الكرادة، ما تسبّب بإثارة ردود فعل سلبية على مواقع التواصل الاجتماعي استهجاناً لهذا العمل غير المسؤول.
تبدو حكومة السوداني، كما سابقاتها، مضطرّة لإطلاق وعودٍ غير واقعية أو غير قابلة للتنفيذ، فقط لأجل الصدى الإعلامي، أو استجابة للحاجة إلى مزيد من الشرعية في الشارع العراقي، والتي تُبنى على التصريحات الشعبوية، أو اتخاذ قراراتٍ تثقل ميزانية البلد، وتزيد من حجم البطالة المقنّعة بين قطاع الموظفين، في حالة من "الرشوة" للمجتمع، كي يخفّف من تبرّمه وانتقاده للحكومة. من دون النظر إلى الآثار المستقبلية على الاقتصاد وزيادة الديون الخارجية، وتخريب إمكانات تنشيط القطاع الخاص وتخفيف قبضة الدولة "الاشتراكية" الموروثة من النظام السابق!
المفقود بعمق هو التفكير الاستراتيجي، فكلّ حكومة في العراق تحصر نفسها في أفق الدورة الانتخابية، وما يمكن استثماره خلال أربع سنوات في التنافس السياسي مع الخصوم، وكسب أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات المقبلة. وما يعقّد من المشكلة أن الجهاز الإداري للدولة، والذي يفترض أن يكون محايداً مع الحكومات أياً كانت، يتعرّض، بعد كلّ انتخابات، إلى عاصفة من التغييرات الإدارية، وتغيّر بوصلة المزاج السياسي إلى هذا الاتجاه أو ذاك، والتعامل الحزبي مع مؤسسات الدولة على أنها "غنيمة" أو بقرة حلوب، يجري الاستفادة منها لغاياتٍ حزبية خاصّة، بغض النظر عن الأصل في وجودها أنها تسيّر مصالح المواطنين.
أعددتُ قبل أكثر من عشر سنوات فيلماً وثائقياً عن أزمة المياه في العراق، وفي اللقاءات التي أجريتها مع عديد من المسؤولين وذوي الشأن، يتبيّن للمشاهد ضعف الإرادة السياسية في التعامل مع هذا الملف الخطير، وأن اتخاذ البلدان المتشاطئة مع العراق قرارات منفردة بشأن الحصص المائية، وكذلك في سياساتها المائية الخاصة لمواجهة تحدّيات الجفاف وتناقص مصادر المياه العذبة، تجعل العراق في موضع المنفعل، لا الفاعل أو الشريك في مناقشة هذا الملف الهام والحيوي.
يعلم الجميع، بما يشبه الاستسلام لنبوءةٍ مرعبةٍ ستقع لا محالة، أنّ العراق سيواجه في السنوات المقبلة مشكلة جديّة في توفير مياه الشرب للمواطنين، وليس الحديث عن الزراعة أو غيرها من استثمارات المياه المعتادة، ولكن البلد يعاني من سنوات أصلاً، بسبب ضعف المشاريع، من أزمة مياه صالحة للشرب في مدن عديدة، ومع الزيادة السكانية المضطرة ليس صعباً أن نتخيّل تفاقم الأزمة أكثر في المستقبل.
ملف المياه، وهو من أخطر التحدّيات المستقبلية في العراق، مجرّد مثال على طبيعة استجابة الطبقة السياسية الحاكمة في العراق للتحدّيات الجدّية التي تتطلّب تخطيطاً وتنفيذاً استراتيجياً، لا يلتفت إلى حاجات راهنة وآنية تتعلق بالترويج السياسي أو منح الجمهور العام ترضياتٍ وقتية أو رشوته حتى يرضى عن الحكومة، بينما البلد بكلّه ينحدر وينزلق إلى مهاوٍ مرعبة.
البلد كلّه، في واقع الأمر، يتداعى، فلا مدارس كافية ولا مستشفيات كفوءة ولا قطاع خاصا نشط، ولا مشاريع بنى تحتية جديدة، والأحياء السكنية العشوائية تشكّل أكثر من ثلث الوحدات السكنية "الشرعية" في العراق من شماله إلى جنوبه، والاعتماد شبه تام على الواردات النفطية، والتي لم تعد كافية لتمويل المرتبات أصلاً، وتمويل الفساد المصاحب، وتمويل شهوة الأحزاب والمليشيات للمال السهل الرخيص.