الاستثمار في الكراهية
بالتزامن مع الذكرى العاشرة لغزو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الموصل وما حولها، صدر تقرير لفريق التحقيق التابع للأمم المتّحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم التي ارتكبها التنظيم (يونيتاد)، في 92 صفحة. وحتّى كتابة هذه السطور، لم يُثر ردّات فعل واسعة، سوى تعليقات لصحافيين ومثقّفين، رغم أهميته، فهو يمثّل وجهة نظر المنظّمة الدولية الأكثر نفوذاً.
يسعى التقرير إلى تبيان ظروف ووقائع محدّدة مرتبطة باعمال "داعش" الإجرامية، وركّز على جريمة الإعدام المروّعة لأكثر من 1700 من المتطوعين العسكريين في معسكر سبايكر في الأيام ما بعد 11 يونيو/ حزيران 2014، وعلى أنّها ترقى إلى جرائم إبادة ضدّ الشيعة في العراق. في جانب آخر، ركّزت مواقع التواصل الاجتماعي العراقية على استذكار جريمة سبايكر من زاوية عاطفية، وذهبت منشوراتٌ وتعليقاتٌ كثيرة إلى إعادة إنتاج موقف طائفي تحريضي ضدّ السنّة بشكل عام، وضدّ عشائر تكريت تحديداً، لتبدو هذه المنشورات، بالنسبة إلى المراقب من الخارج، أنّها الطاغية على استذكار جريمة "سبايكر"، بالتوازي مع الحضور الهامشي لتلك المنشورات التي تريد إنتاج موقف عقلاني وواقعي ممّا جرى في هذا الماضي القريب، إن كان مع تلك الجريمة أو ما تلاها من جرائم ارتكبها تنظيم داعش، وردود الفعل الطائفية العنيفة، التي حوّلت كثيرين من المدنيين السنّة ضحايا انتقام، وصنعت ردّات الفعل الانتقامية "سبايكرات" عديدة في أربع سنوات لاحقة من الحرب الضارية ضدّ التنظيم.
استحضار جريمة "سبايكر"، وغيرها من الجرائم، ومحاولة قراءة الوقائع للاستفادة منها وتحليلها، يبقى ضرورياً، ولا ينبغي التغطية والتعمية على جرائم الكراهية التي ارتبكها أفراد أو تنظيمات سنيّة، وأشكال الصراع الطائفي في العراق في مدى 20 عاماً لم تكن أحادية، وقد اشترك فيها سنّة وشيعة، بغضّ النظر عن النسب المئوية لعدد الأفراد أو حجم التأثير أو النتائج، التي انتهى إليها هذا الصراع. لكنّ تقليب هذه الصفحات الدامية يجب أن يكون حذراً دائماً لئلا تتلوّث أيدي من يتصفحها بالدمّ مرّة أخرى. فهل الغاية منها إذكاء الكراهيات والأحقاد من جديد أم محاولة الفهم لإبطال فتيل هذه الكراهيات؟ هل نريد استحضار الجبهات الطائفية أم تفكيكها بضخّ مزيد من العقلانية والواقعية في قراءة الأحداث؟
يذكر تقرير "يونيتاد" أنّ مواطنين عراقيين سنّة كثيرين في تكريت، ومدن محافظة صلاح الدين عموماً، كانوا يتصوّرون أنّها ثورة عشائرية، لذلك رحّبوا بمقاتلي "داعش" أول وهلة، وسرعان ما اكتشفوا الحقيقة، وعزلوا أنفسهم عن هذا التنظيم الإجرامي. ويذكر التقرير، أيضاً، أنّ أفرادا من عشائر تكريت أنقذوا، بالتزامن مع عمليات الذبح المروّعة عند القصور الرئاسية في تكريت للجنود الشبان من الشيعة، مئات من هؤلاء الشبان عن طريق تهريبهم من أيدي "داعش". وكان من الممكن أن يكون ضحايا "سبايكر" أضعاف ما هو معلن، لولا مجازفة هذه العشائر لإنقاذ الشبان الأبرياء. لكنّ هذه الصورة المركّبة والواقعية لما جرى لا تناسب أطرافاً سياسية واجتماعية بنت حكايتها كلّها على تغذية الكراهيات الطائفية، وترى أنّ استمرارها مرهوناً باستمرار تغذية الكراهية، فتستغل ذكرى مجزرة سبايكر لإعادة الاتهام لطائفة كاملة وعشائر برمّتها بتجاهل حقيقة المسؤولية الفردية الجنائية.
يشجّع تقرير "يونيتاد"، المهمّ، الباحث والمطّلع على دعوة الأمم المتّحدة، على البحث والتقصّي، بجرأة وشجاعة أكثر، عن الجرائم المُرتكبة ضدّ المدنيين السنّة، خلال عمليات التحرير من "داعش"، وتمييز تلك التي حدثت بوصفها خسائر جانبية للعمليات العسكرية، أو التي حدثت بسبق إصرار من الجهات المسلّحة الرسمية أو الفصائل المسلّحة، بغرض الانتقام الطائفي من السنّة، كتلك التي حدثت في الخامس من يونيو/ حزيران 2016، باختطاف أكثر من 700 من شبان ورجال سنّة من مدينة الصقلاوية، الذين قتلوا على الأرجح ودفنوا في مقبرة جماعية.
لا يمكن العبور الآمن باتجاه المستقبل من دون شكلٍ من العدالة الانتقالية لجميع الأطراف من المدنيين الضحايا، وأن تكون الجماعات السياسية المشكّلة للسلطة الحاكمة أكثر عدالة ونزاهة، ولا تستثمر في الكراهيات على الدوام، وتهدّد بتمزيق المجتمع كلما كان ذلك مفيداً لها، ولاستمرارها في السلطة.