الاجتثاث السياسي
كانت سنة 2005 عجيبة في العراق. جرت فيها ثلاث عمليات اقتراع شعبية، في سابقةٍ لم تحدث من قبل، ومثّلت نوعاً من الضغط على مزاج عام لم يعهد الممارسة الديمقراطية بحدودها الدنيا المعقولة، على الأقل منذ انقلاب 14 تموز (1958) الذي أسقط النظام الملكي، وأنهى معه النظام البرلماني في العراق. .. من انتخاب الجمعية الوطنية التي كتبت الدستور، ثم التصويت على الدستور الدائم، ومن ثم انتخاب برلمانٍ دائم منبثق عن هذا الدستور.
كان هناك ضغط من النخب الشيعية والكردية من أجل إقرار شكل النظام السياسي الجديد، الذي يتيح لقادة هذين المكوّنين في البلد أن يقودوا مرحلة ما بعد نظام صدّام، بشكلٍ يحظى بتأييد المؤسسات الأممية والمجتمع الدولي، مع انقسام سنّي ما بين النخب والدوائر الاجتماعية والسياسية، من أقليةٍ متحمّسة للانخراط في النظام السياسي الجديد، على الرغم من وجود ملاحظاتٍ عليه، ومجموعات رافضة بالمجمل، ولكن رفضها يتدرّج من المقاطعة أو الاحتجاج على الأخطاء التي رافقت بناء النظام السياسي الجديد، وينتهي عند أقصى التطرّف، بحمل السلاح ومهاجمة رموز النظام الجديد ومؤسساته.
في أيام الانتخابات العجيبة تلك، كنت أتجوّل خلال عملي الصحافي على المجالس البلدية لأحياء بغداد المختلفة، وأستطلع الاستعدادات الجارية للانتخابات ومزاج الجمهورالانتخابي المفترض. وكانت جولة محفوفة بالمخاطر مع الانفجارات الإرهابية والعبوات الناسفة، ونشاط الجماعات السنية والشيعية المسلّح، وضعف الأمن العام، واستشراء الجريمة المنظمّة التي تستغل الفوضى والانفلات الأمني.
سألت مديراً للمجلس البلدي لناحية في أطراف بغداد عن أجواء التنافس الانتخابي فقال لي: الحمد لله.. كل الأحزاب تنشر دعايتها الانتخابية في المنطقة بكلّ حرية. .. ولكن المصوّر المرافق لي كان أكثر انتباهاً إلى ما شاهده خلال الطريق من لافتات انتخابية، فبادر إلى سؤال مدير المجلس البلدي: وماذا عن حركة الوفاق الوطني؟ (كان يرأسها إياد علاوي). فردّ المدير بانفعال: هذا حزب مرفوض؟
"لماذا مرفوض؟" سألناه فأجاب: هذا رأي سكّان المنطقة، لا يمكن لهذا الحزب أن يقوم بأي دعاية في منطقتنا.
من الواضح طبعاً أنه رأيه الشخصي، ورأي فصيله السياسي الذي ينتمي له، وليس رأي "كلّ سكّان المنطقة"، وكان من الواضح أن هناك مزاجاً مفروضاً على المنطقة كلّها تتحكّم به تيارات الاسلام السياسي الشيعي التي كانت منضوية كلّها تحت يافطة "التحالف الوطني الموحّد". كانت هناك إرادة ألا تخرج أصوات سكّان المنطقة، وكلّهم من الشيعة، لأي حزبٍ علماني أو غير إسلامي.
كانت ردّة فعلنا على هذه المفارقة هي السخرية، وكنّا نفهم أنها من مفارقات تجربةٍ ديمقراطيةٍ في بداياتها وما زالت تحبو. رغم ذلك، فاز تحالف إياد علاوي بكتلة كبيرة في تلك الانتخابات لاحقاً. كما أن الأحزاب الأخرى المشاركة مثّلت طيفاً متنوعاً وغنياً.
الملاحظة الأهم، في رصد "تجربة ديمقراطية" ستكمل عقدها الثاني قريباً، أن تلك الانتخابات التي كانت تجري تحت سطوة الإرهاب والفوضى الأمنية تبدو للمراقب اليوم أكثر تمثيلاً للتنوّع العراقي. وأننا صرنا، مع توالي محطّات العملية السياسية، نذهب باتجاه تركيز السلطة في يد فئة صغيرة، واستعمال كلّ الوسائل المتاحة لإرهاب الخصوم وقمعهم وتشريدهم ومنعهم من المساهمة السياسية، أو أن يكون لهم حضور سياسي فاعل.
حصل إياد علاوي على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات 2010 بسبب ما بدا تحالفا ما بين الطبقة المدنية العراقية والنخب السنيّة، واستقطبت قائمته الانتخابية أصوات السنّة الذين كانوا حتى ذلك الوقت محبطين ويائسين من أي تغيير يمكن أن يصبّ في صالحهم، وأيضاً أصوات المدنيين والعلمانيين في المجتمع الشيعي الحانق على فساد الإسلام السياسي الشيعي المسلّح وسيطرته. تكرّر الأمر مع قائمة "سائرون" التي دخل بها مقتدى الصدر في انتخابات 2018، فكانت أيضاً نوعاً من التحالف ما بين تيار الصدر، وهو تيار إسلامي محافظ، مع العلمانيين والشيوعيين.
اليوم خرج تحالف علاوي، العلماني المقرّب من البعثيين المنشقّين، من العملية السياسية، وتلاشى تيار أحمد الجلبي بعد وفاته، وهو العلماني الذي يوصَف بأنه قريب من البرجوازية المدنية الشيعية. وليس هناك من حزب علماني منظّم سوى الحزب الشيوعي العراقي، وهو في أضعف حالاته.
لقد أفرغت تيارات الإسلام السياسي الشيعي المسلّح هذا النظام الديمقراطي من محتواه، وصرنا أمام مناخ استبداديٍّ خانق، مع عمليات اجتثاثٍ متواصلة لكل التيارات المغايرة لها، وترويض لمن يقبل بشروط العمل تحت ظل السلاح. وربما، مع اقتراب الذكرى العشرين لولادة هذا النظام السياسي، يكون من المهم العودة الى البدايات، إلى صورة التنوّع الأولى التي كان يفترض أن تنمو وتتجذّر وتصبح هي القاعدة الأساسية لنظام سياسي فاعل، وليس نظاماً يعيش حالة من الموت السريري، كما الواقع اليوم.