الأسد المنتصر على مفهوم القطيعة معه
تتواتر أخبار عن رغبة دول عربية كثيرة باستعادة علاقات طبيعية مع النظام السوري، تتوّج بعودة سورية إلى مقعدها الشاغر في جامعة الدول العربية منذ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، خلال اجتماعات القمة العربية في الجزائر في مارس/ آذار المقبل. وعلى الرغم من أنّ قرار الجامعة تجميد عضوية سورية لم يأتِ بقيمة مضافة إلى الثورة السورية التي خرج القرار "لمساندتها" في مواجهة النظام، بموافقة 18 دولة، إلّا أنّ الحديث عن رغبة التطبيع معه يجب أن يثير التساؤلات وسط جمهور "النظام" كما لدى جموع المعارضين.
وفي الحديث عن الاصطفافات "الجديدة" للدول التي تسعى إلى استعادة علاقاتها مع النظام السوري وليس العكس، لا يمكن تجاهل أنّه كان لكلّ دولة تدخلت في الصراع على سورية وفيها دور في تطويع الثورة، وتغيير هويتها، ونحت تقلباتها من شعبية سلمية إلى فصائلية مسلحة، وبعضها متطرّفة، وبأجندات دخيلة، ومعظمها معادية لمفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة المتساوية. وعلى أية حال، ليس تطبيع أطراف النظام العربي مع نظام الأسد مفاجئاً، فقد انتصر تجاهل الأسد القطيعة على الراكضين خلف التطبيع معه، أو يفترض أنّه كذلك، لأسباب عديدة، أهمها:
أولاً، المشتركات التي تجمع تلك الأطراف بنظام الأسد كثيرة جداً، ما يجعلها تتجاوز وبسرعة أكبر الخلافات أو المفارقات التي أدّت إلى إعلانها قطيعة معه، سيما بحكم طبيعة الأنظمة السائدة وتوافقها على مصادرة حقوق المواطن، وتطويع الدولة السلطة، وتضامنها البيني، بدليل أنّه على الرغم من تجميد عضوية سورية في جامعة الدول العربية، فإنّ ذلك الأمر لم يشمل المستوى الأمني، بدليل حضور سورية اجتماعات وزراء الداخلية العرب، واجتماعات رؤساء أجهزة المخابرات العرب، كما حصل أخيراً.
لم تقدّم معظم أطراف النظام العربي أي دعمٍ جدّي للمعارضة السورية، باستثناء الجانب الاستخدامي
ثانياً، معظم تلك الأنظمة التي تراكضت لإعادة التطبيع علناً بعدما كان سرّياً كانت تتوخّى من مساندة عسكرة الثورة، واحتضان فعاليات الفصائل المسلحة وتوجيهها، مجرّد إضعاف النظام، ووضع حدّ لتكبّره عليها، ولابتزازاته لها، على أكثر من صعيد، وفي أكثر من قضية، وليس مساندة الشعب السوري في مطالباته بالتغيير السياسي وحقوق المواطنة والديمقراطية، ما يصحّ معه القول هنا إنّ "فاقد الشيء لا يعطيه". وكانت مشكلة المعارضة في قصور إدراكاتها هذه المسألة، وربما يكمن في هشاشتها وضعف صدقية مواقفها، وارتزاق معظم قادة الفصائل الذين أزاحوا المنشقّين العسكريين ليتولوا مهام الفوضى المدمّرة التي أوصلونا إليها، وبديلاً عن تصحيح السياسيين مسار العسكرة انجرفوا خلفه، وهو ما أخذ بكثير من كيانات المعارضة، بما فيها شقّها السياسي المفاوض، عن الثورة إلى الحد الذي ارتهنت به لتلك الأنظمة.
ثالثاً، اشتغلت الأنظمة التي اعتبرت نفسها داعمةً للمعارضة، أو صديقة للشعب السوري، بالسيطرة على الحراكات الشعبية السورية، وتوجيهها بما يخدم أجندتها، في وقتٍ كانوا يدعمون النظام والدول الداعمة له، لإبقائه على حالة "اللا منتصر" بما يخدم أهدافهم بإضعاف سورية، دولةً ومجتمعاً في آن، مع الحفاظ على نظام بشار الأسد، وهو ما حصل كما شهدنا، بما يفيد بأنّ حال الثورة السورية ربما كان سيكون أفضل من دون دعم "أصدقاء" كهؤلاء.
رابعاً، لم تقدّم معظم أطراف النظام العربي أي دعمٍ جدّي للمعارضة السورية، باستثناء الجانب الاستخدامي، بل دفعت الثورة نحو مسارات معينة، ضمنها العسكرة والأسلمة، وضمنها رفع السقف السياسي، من دون مراعاة الإمكانات والتعقيدات والظروف والمعطيات الإقليمية والدولية غير المناسبة، لتصبح مرتهنة لإرادات تلك الدول، وطوّعت توظيفاتها التي لا تخدم تطور مسار الثورة، ولا تفيد مصالح الشعب السوري، ولا تُسهم بإضعاف النظام.
مهمتنا حضّ السوريين على القيام بما عليهم القيام به، لمواجهة الواقع الجديد، من دون مراهنات خاطئة، وغير مجدية، ومن دون تضحيةٍ بالداخل
الآن، وما دام التطبيع جاريا على قدم وساق، مع التذكير بأن الأنظمة هي التي سعت إليه وليس الأسد ونظامه، علينا الاعتراف بأن السوريين لا يملكون القدرة على وقفه. ولنلاحظ هنا أنّ المعارضة المتصدّرة في تركيا لا تستطيع شيئاً أصلاً، إذ تركيا ذاتها باتت تطبّع مع حلفاء النظام السابقين والجدد، وتسعى إلى التطبيع مع دول عربية كانت علاقاتها معها متوترة، أو خلافية. ولأنّ تركيا ذاتها هي أول من قاد مسار التطبيع عبر مسار المفاوضات في أستانة، وعبر مسار سوتشي، وعبر المناطق منخفضة التصعيد التي آلت إلى تسليم الفصائل المسلحة مناطقها (مع سلاحها ومستودعات تموينها وذخيرتها)، والتي قبلت مسار أستانة وانخرطت فيه، على حساب مسار جنيف، هذا ناهيك عن ضعف الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، إن لهشاشة مكانته التمثيلية، أو بحكم ارتهانه للأجندات التركية.
والقصد أنّ الشعب السوري، والمعارضة السورية الحية وذات المصداقية، وحدها من يتأثر سلباً من هذا التطوّر الذي يستفيد منه النظام، لكن ما سيحصل ربما يُفضي إلى وضع الجميع أمام الحقيقة، أي أمام سقوط الرهان على أصدقاء أو داعمين كهؤلاء. هذا ليس مسبّة أو مأخذاً على الدول التي علينا أن نفهم أنّ تحرّكاتها تخدم تعزيز مكانتها ومصالحها، وليس لها علاقة بمصالح السوريين، إلّا إذا تقاطعت معهم بفعل المصادفة، وليس لضمان حرّياتهم أو حقوقهم. وبالتالي مهمتنا هي حضّ السوريين على القيام بما عليهم القيام به، لمواجهة الواقع الجديد، من دون مراهنات خاطئة، وغير مجدية، ومن دون تضحيةٍ بالداخل لحساب مرتزقة سوريين يعيشون رفاهية المعارضة الخارجية، ويعملون لإبقاء مناصبهم في الكيانات، أو "منافعهم" خارجها، ما يستوجب إعادة ترتيب أوضاعنا نحن السوريين، وطرح رؤى سياسية جديدة وواقعية، من دون أن يعني ذلك نعي الثورة بمشهدها الأول والحقيقي قبل أن تصبح مطيّة لأزلام الشرق والغرب.