الأخوات برونتي، من هنّ؟
شارلوت، إميلي، وآن.
عامان يفصلان بين ولادة كل منهن، وقد أنتجن معًا، على ضوء الشموع، ثلاثةً من أفضل الروايات التي شكّلت أولى إرهاصات الأدب النسائي في القرن التاسع عشر. لم يوقّعن بأسمائهن، بل بأسماء رجال، إذ لم يكن سهلا على امرأةٍ أن تكتب، وأن يُنظر إلى عملها بجدّية واحترام. "جاين "إير" هي رواية شارلوت الأولى، "سيدة قصر وايلدفيل هال" هي رواية آن الثانية، أما "مرتفعات وذرينغ"، فهي الرواية الوحيدة التي كتبتها إميلي. ولطالما شكلّت أولئك النساء لغزا، وقيل الكثير عن برودتهن وعيشهن المتقشّف معزولاتٍ عن العالم، وهنّ بنات كاهنٍ من وسط اجتماعي متواضعٍ أفرد لأخيهنّ الوحيد، برانويل، ما أمكنه لتعليمه ودفعه إلى احتلال منصبٍ محترمٍ في الحياة.
في السيرة التي كتبتها لورا المكّي عن الأخوات بعنوان "الأخوات برونتي، قوة أن تنوجد" (2017، دار تاللاندييه)، سوف نتعرّف إليهن عن كثب، في حياتهن الحميمة، في تحالفاتهن وصراعاتهن ومشكلاتهن، وعلاقتهن بالعائلة وبأبيهن وشقيقهن الوحيد، فالوالد باتريك أمّن لأولاده أن يتعلّموا في وقتٍ كان فيه سكان شمال إنكلترا فقراء وأميين. عام 1847 نشرت الأخوات رواياتهن الأولى. رواية شارلوت "جاين إير" نجحت، وتحوّلت شخصيتها الرئيسة بطلة، ربما لأنها المرّة الأولى، حيث تعبّر شخصية نسائية عن مشاعرها في إطار قصة حب، وهو ما سمح لاحقا للأختين الأخريين أن ينشرا بدورهما. آن برونتي نشرت "أغنيس غراي"، لكنها لم تشتهر إلا بعد نشر روايتها الثانية، "سيدة القصر..."، وبشكل متأخّر، لأنها تجرّأت وتطرّقت إلى العنف الزوجي في المجتمع الراقي، خلال الحقبة الفيكتورية الطهرانية. أما إميلي التي كتبت روايةً واحدة، "مرتفعات وذرينغ"، فانتُقدت وهوجمت بشدّة لدى نشرها، إذ تناولت كل محرّمات المجتمع الفيكتوري من خلال الكشف عمّا يجري داخل منزل مع الإخوة والأخوات والأزواج ..
وعلى عكس ما يتوقّع، سوف يكتشف قارئُ السيرة أن الأخوات الكاتبات كنّ فرحات، قويات الشخصية، يحببن الطبيعة والريح، ولديهن فضول العلم واكتشاف الأشياء، واعياتٌ تماما ما يجري من حولهن في مجتمعهن، وإن كن يظهرن، في بعض الأحيان، نائيات، كئيبات، أو ضائعات. وسوف يكتشف، على وجه الخصوص، هاجسَ الأب باتريك، ألا وهو كيفية تربية عائلته مع افتقاره إلى المال، وبالتحديد كيف يؤمّن مستقبل بناته، حيث تعاني المرأة الفقيرة أكثر بكثير من سواها، بسبب غياب النسب الراقي أو المهر الكافي لتزويجها. ومع ذلك، بذل باتريك كل ما بإمكانه ليتيح لأولاده أن يكتسبوا العلم والمعارف، فكان حبّ الكتب والكتابة والمخيلة الخصبة هو ما أنقذ العائلة، وما أعطى الفتيات إرادةً قويةً لتحقيق ما صبون دوما إليه، على الرغم من كل الظروف المعاكسة. على العكس من شقيقاته، لم يتمتّع الأخ الأنيق، الجميل، المغامر، بقوة الشخصية وصلابة الإرادة، والمقدرة على تحقيق الذات، وإن كان ملهما لأخواته/ وبالتحديد صغيرتهن آن. ولكن، للأسف، لن تترك المصائب هذه العائلة المتماسكة، المتلاحمة، والمحبّة، التي تعيش في ظروفٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ معقدة، حيث تنتشر الأمراض وتسوء الظروف الصحّية، متسببة بوفاة أطفالٍ وشبانٍ كثيرين. عام 1848، توفي الأخ برادويل، بسبب داء السلّ المنتشر جدا آنذاك، وهو في الواحدة والثلاثين، تبعته إميلي (30عاما) في العام نفسه، ومن ثم آن عام 1849 وهي في التاسعة والعشرين. شارلوت وحدها بقيت حيّة، اهتمّت بميراث أختيها ثم تزوجت عام 1854، لتوافيها المنية بعد عام في ظروف غامضة.
"خلف كل نافذة، هناك المدافن، ومن ثم الأفق. عدم البحث أبعد من ذلك: لقد عشن، فكّرن، حلمن وكتبن وهنّ عند عتبة الموت (...). ومع ذلك، لم تنقطع تلك الأخوات عن الواقع أبدا، لكي ينعزلن في قصص الخيال، حتى ولو مِلن إلى ذلك ربما. لقد كان هذا الاندفاع نحو الأدب وسيلةً لتحمّل العالم، وليس للانسحاب منه".