الأب منصور لبكي مغتصِب محصَّن
الخبر صار معروفاً. منصور لبكي، رجل الدين اللبناني، متَّهم منذ أعوام باغتصاب بنات صغيرات، كنَّ من بين نزلاء الميْتم الذي كان يرعاه في فرنسا، في أثناء الحرب الأهلية. المحاكم الدينية الكاثوليكية أدانته، كما غيره من الكهَنة المغتصِبين من مختلف الجنسيات، في إطار حملة دشّنها البابا السابق بندكت السادس عشر، وتابعها بإصرار البابا الحالي فرانسيس. وذلك بعدما اندلعت فضيحة مطلع التسعينيات في الولايات المتحدة، إثر انكشاف فضائح اغتصاب وتحرّش جنسي أبطالها رجال دين كاثوليك، فكانت محاكمات داخلية امتدت أكثر من عشر سنوات، وأفضت إلى اتهامات موثّقة.
الآن، ومنذ أيام، توّجت إحدى المحاكم الفرنسية ما بدأه الحبرَان الأعظمان منذ بضع سنوات. بعد تحقيق واستدعاء شهود ومحاكمة، أدانت هذه المحكمة الأب منصور لبكي بتهمة الاغتصاب، وأصدرت حكماً بسجنه 15 عاماً، مرفقاً بمذكرة توقيف دولية.
في وسعكَ أن ترتكب جريمة، أي نوع من أنواع الجريمة، من دون أن تُحاكَم، وتنال جزاءك
طبعاً، قرّرت الكنيسة اللبنانية المحلية منذ البدء عدم تسليمه. كل ما طلبته منه أن يصمت ويصلي، ولا يعود يظهر على الملأ. والأرجح أنها هي التي منعت إحدى ضحاياه المقيمة في لبنان من الذهاب إلى فرنسا للإدلاء بشهادتها، عكس الضحايا الأخريات من رفيقاتها. ومن بينهن سيليست عقيقي، ابنة أخت منصور لبكي. وقد تمتَّعن بحرية التنقل والشهادة الصريحة والمفصلة والمؤلمة لاعتداءات الأب لبكي عليهن. إلى جانبهن شهود، يتجاوز عددهن الأربعين سيدة فرنسية، وفرنسية من أصل لبناني.
حسناً. الكنيسة اللبنانية المارونية تحمي رجالاتها، "تغطّيهم"، كما تغطّي الزعامات الزمنية أزلامها، وهذا "عادي" في لبنان. أما أصحاب الرأي، فما الذي يدفعهم إلى أن يحذوا حذو الكنيسة؟ ما الذي يحثّ أقلاماً، يفترض أنها "رصينة"، وبعضها لنساء، أن تطلق "حجج" إعفاء الأب لبكي من جرائمه؟ بأن التهَم والحكم بالسجن ومذكرة التوقيف ليست إلا افتراءات وتكهنات وحملات للإعلام المأجور وللمعجبين بفرنسا وأحكامها. وبأنه أصلاً، كيف يمكن أن يصدر حكم كهذا بحق رجل دين هو "الضمير"، هو "روح الله"، هو الصوت الملائكي في التراتيل المرْيمية والقرْبانية والميلادية، هو رجل الخير الذي رعى أجيالاً من يتامى الحرب، هو الذي طبع مخيّلة آلاف من الأطفال المسيحيين وبقيت صورته ناصعة بيضاء، كما صورة القديسين. وبأنها "مؤامرة"، نعم بالحرف، مؤامرة على الكنيسة، تكاد تكون أميركية إسرائيلية، وكان لا بد أن تُحشر فيها النساء بطريقةٍ من الطرق: فهذه "الحملة المأجورة" على الأب لبكي، ما هي إلا ثمرة من ثمرات النسوية، ومن نساء "مجنونات"، ركبت بعقلهم النسوية، فصارت ترى في كل ذكَر، رجل دين أو غيره، مغتصِباً حتماً.
الأرجح أن ما نشهده من نكران لذنوب الأب لبكي، من نوعٍ كهذا من النكران، ظاهرة متأصلة في الاجتماع اللبناني. وأخذت، في الآونة الأخيرة، أبعاداً جديدة، أو قلْ إن عيوبها تبلورت مع انهيار منظومة القيم الأخلاقية والسياسية في مستنقعات الفشل و"الانتصار".
يُقتل الناس، تُسرق أموالهم، يُجرّون إلى المذابح اليومية، ولا من يحاسَب
اليوم، ليس في وسع أحد أن يحاسب أحداً. إلا إذا كان المحاسَب من الطينة الأضعف، أو الأدنى. من النوع الذي لا ينضوي تحت المظلة الرحيمة المسمّاة "تغطية". أي إنه في وسعكَ أن ترتكب جريمة، أي نوع من أنواع الجريمة، من دون أن تُحاكَم، وتنال جزاءك... إذا كان فلان أو علّان من زعماء الطوائف "يغطّيك". الأضعف من بين أولئك الزعماء يخدمكَ وأنتَ في السجن، والأقوى يؤمن لكَ الحرية التامة، وربما العيش الكريم إذا كنتَ أنْفع من غيرك. الكنيسة، وغيرها من مؤسسات دينية إسلامية، جزءٌ حيويٌّ من هذه المنظومة، تحمي رجالاتها من ارتكاباتهم ولها أكباش محرقتها عند اللزوم.
عيبٌ آخر: إذا اتهمتَ رجلاً بجريمةٍ ما أو جنحة، وكان يتمتع بهذه "التغطية"، وينتمي إلى دين أو مذهب معين، عليكَ أن تنْبش عمن يناظره، من الطائفة أو المذهب الآخر. خذْ مثلاً، المحقّق العدلي في جريمة المرفأ. ألا يطالبه اللبنانيون، سياسيين ومواطنين، بأن يكون "عادلاً"، فيستدعي مسؤولين مسيحيين إلى التحقيق، كما يفعل مع مسلمين؟ يعني، بالمعايير اللبنانية، "العدالة" في قضية الأب لبكي تعني أن تجد وسط المسلمين، والمسيحيين غير الموارنة، من يرتكب جرائم، جنسية أو غيرها.
وفي طيّات هذه العقلية، مفهوما "الديموقراطية التوافقية" و"الحصص"، وهما يقضيان أن لا تصويت، لا أقلية وأكثرية، بل "تفاهمات" خاضعة لموازين قوى غير معلنة، تمْلي حصصاً في خيرات الدولة، من سلطة وامتيازات، إلخ. و"حصة" البراءة للأب لبكي الآن تعني أن تتساوى مع براءة غيره من رجال الدين، وإلا فلا معنى للمحاكمة، أو للأحكام أو القانون.
الكنيسة اللبنانية المارونية تحمي رجالاتها، "تغطّيهم"، كما تغطّي الزعامات الزمنية أزلامها، وهذا "عادي" في لبنان
هكذا، يتجسَّد حكم اللاقانون في لبنان. حكم قوانين موازين القوى، المعلنة كـ"انتصار" هنا، أو المضْمرة كـ"أمر واقع" هناك. يُقتل الناس، تُسرق أموالهم، يُجرّون إلى المذابح اليومية، ولا من يحاسَب. مع أنها جرائم موصوفة، فاقعة، يومية، سريعة، بطيئة، تكاد توازي جرائم ضد الإنسانية، بفظاعتها وتنوّع دمويتها.
العيب الثالث هو التكامل بين الزعامات الدينية والزعامات الزمنية. لدى المسلمين، كما لدى المسيحيين، رجال الدين ورجال السياسة على صلةٍ حميمة، يشوبها التلاحم والتناغم. تارة تكون الأولى في حاجةٍ إلى الثانية، وأطواراً العكس. اليوم، يتحضّر الزمنيون لتجديد تسلّطهم على البلاد عبر الانتخابات النيابية. وهم، في هذه اللحظة بالذات، يحتاجون إلى رضا رجال الدين، وإلى "الرعية" التابعة لكل واحد منهم، فلا تُفسَد عقول المؤمنين قبل التصويت لصالحهم. من هنا تفهم أن الكتّاب وأصحاب الرأي الموالين لهذا الزعيم أو ذاك، يناصبون العداء للمحكمة الفرنسية التي أدانت لبكي. إنهم، في "هذه اللحظة الدقيقة من تاريخنا"، يحتاجون برَكة الكنيسة والعدد المرقوم من الأصوات.
عيبٌ أخير: تكذيب العدالة الجزئية على أساس أنها لم تكن كلية. وفي حالة الأب لبكي: تكذيب تهمة الاغتصاب، على أساس أنها لم تشمل كل المغتصبين على الأراضي اللبنانية. وهذا عيبٌ صميميٌّ في العقلية التي تدين إدانة لبكي. ولكن هذا لا يلغي أن الجرائم الجنسية مرتاحة في لبنان: بحق اللاجئات السوريات، بحق العاملات المنزليات، بحق القاصرات من البنات، اللواتي يزوّجن قسراً، بحق اليتامى في الدور الدينية وغير الدينية، بحق زوجات "المتعة" وزوجات "نكاح الجهاد". قضية الأب لبكي هي نافذة صغيرة تطلّ على هذه الجرائم، وإغلاقها يعني الإطباق على صوت ضحاياها، الناجيات منها وغير الناجيات.