استعمال "البعث"
يُجمع باحثون عديدون على أن تولّي صدّام حسين رئاسة الجمهورية أواخر عام 1979 كان لحظة فاصلة بالنسبة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. فعلى الرغم من أن الحزب كان منفرداً بالسلطة منذ 1968، إلا أنه، كـ"حزب قائد"، كما كان يوصَف وقتها، كان يحوي عدّة أجنحة وتيارات، لكن انفراد صدّام بالسلطة أذن بتصفية كل التنوّع داخله، ليُعاد إنتاجه، على يد صدّام نفسه، ليكون حزباً بعثياً "صدّامياً".
لم يكن الطور الجديد من حزب البعث العراقي سوى تجسيد لرؤى صدّام نفسه وتصوّراته. ولذلك، مع التوجّهات الدينية لصدّام في عقد التسعينيات، وإطلاقه "الحملة الإيمانية"، كان "البعث" يميل مع مزاج الرئيس، أكثر من أمانته للتصوّرات الأيديولوجية الأولى لحزب البعث. وفي النهاية، كان سلوك حزب البعث على أرض الواقع يحيل إلى منظمةٍ أمنية أكثر مما هي حزبية، وكان عراقيون كثيرون ينتمون الى هذا الحزب، خوفاً أو طمعاً في مكاسب يهيئها الانتماء إلى الحزب.
عشية إبريل/ نيسان 2003، انهارت أكبر منظمة أمنية حزبية في العراق، ثم جاء حظر الحاكم المدني بول بريمر نشاطات حزب البعث، ليحوَّل عمل من بقي مؤمناً وملتصقاً بالحزب الى النشاط السرّي.
جرت عمليات تصفية ميدانية لأعضاء من الحزب في المدن الجنوبية على خلفية أعمال قاموا بها خلال حكمه، ثم جاءت إجراءات هيئة اجتثاث البعث لتقصي عديدين من أعضائه العاديين من وظائفهم، ثم استخدم النظام السياسي، المؤسّس على معايير طائفية، لتمارس، أكثر من عقد، سياساتٍ انتقائية، لاستثناء شخصيات ما أو شمولها بإجراءات الاجتثاث. وفي العموم، استطاع بعثيون كبار، من أصول شيعية، أن يغسلوا أيديهم من حقبة "البعث"، وينخرطوا في الأحزاب الإسلامية الشيعية الجديدة، وبعضهم صار قيادياً فيها. وفي الجانب السنّي، كانت إجراءات الاجتثاث سيفاً مُصلَتاً على رؤوس كثيرين، ومن استُثني منهم فلأجل حساباتٍ سياسيةٍ مع الأحزاب السنيّة.
في التداول السياسي والإعلامي العام، جرى التعامل مع حزب البعث، في الوضع الجديد، على أنه حزبٌ سنّي، وكثيراً ما كان الحديث عن "خطر البعث" يعني، في الحقيقة؛ التخوّف من قدرة السنّة على إحداث تأثير في الوضع السياسي، فضلاً عن التخويف بالقيام بانقلاب أو إنشاء تحالف مع الغازي والمحتل نفسه لإعادة البعثيين إلى السلطة. وكانت هذه شائعاتٍ نافعة لتحشيد الناس طائفياً في مواسم الانتخابات.
من المثير أننا، بعد عشرين سنة على إسقاط النظام، يخرُج بعض السياسيين ليخوّف ويحذّر من عودة "البعث"، مستغفلاً الناس ومستخفّاً بعقولهم، وليؤكّدوا، من دون أن يقصدوا ذلك، أنهم لا يملكون شيئاً يقدّمونه للناس سوى التخويف من عدو اندثر، ولم يعد له تأثير حقيقي على الأرض.
وفي سياق الحرب الناعمة، لن تكون الأجواء أكثر مثاليةً مما هي عليه بالنسبة إلى الموالين لحزب البعث وحقبة نظام صدّام، فيستثمروا الفشل الذريع للنظام الحالي بالتنمية والإعمار للتذكير بمقاطع من إنجازات حكومة البعث، بعملية انتقاء مخلّةٍ لبعض المظاهر. وبإغماض العينين عن الحروب والكوارث التي قامت بها حكومة "البعث". ومع ذلك، تفعل هذه الدعايات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فعلها، وتؤثّر في قطاعات كثيرة من الناس غاضبة ومتبرّمة من الوضع الحالي.
بقاء البعث "بعبعاً" للتخويف، وعدم تركه للنسيان والتواري في عتمة التاريخ، هما ما تجهد الأحزاب الحالية للعمل عليهما، لأنها لا تملك الثقة الكافية بنفسها لقيادة بلد، وترى التقصير الكبير في إدارتها مؤسسات الدولة، وتعرف تماماً أن شعبيتها ليست كبيرة في الشارع العراقي، وهي مشغولةٌ بنهب المال العام أكثر من وضع خطط استراتيجية للتنمية وتطوير المرافق الحيوية للبلد.
إنها أحزابٌ لا يُرجى منها ولا لها، والتعويل الأكثر واقعية هو على ولادة أحزابٍ وتياراتٍ سياسيةٍ جديدةٍ تخرُج من مخنق المقارنة بـ"البعث"، واستعمال "البعث" للتخويف والاستعمال السياسي. أحزابٌ تنقد تجربة حكم "البعث" وتجربة حكم الأحزاب الحالية بالأدوات نفسها، وتنظر إليهما كحقبة واحدة من وجهين، لا أكثر.