في ارتباك الموقف الفلسطيني من مشروع رصيف غزّة البحري
أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، في خطابه حالة الاتحاد السنوي 9/3/2024، عن قراره إنشاء رصيف/ ميناء بحري مؤقت أمام سواحل قطاع غزّة، بغرض استقبال سفن المساعدات الإنسانية، في ظلّ تعنّت الاحتلال ومواصلته جرائمه بحقّ قطاع غزّة وقاطنيه (أكثر من مليوني فلسطيني)، بالحصار والتجويع والإبادة الجماعية. تراوحت التصريحات الأميركية بشأن فعالية الميناء البحري المؤقّت بين من اعتبره بوابةً لإدخال مليوني وجبة غذاء يوميّاً إلى قطاع غزّة، ومن عبّر عن قدرة الميناء على إدخال ما يعادل حمولة مائتي شاحنة مساعداتٍ في اليوم الواحد. لكن وبعيداً عن فعالية الميناء المؤقّت، تنص الخطّة الأميركية على تفريغ حمولة سفن الشحن في الرصيف المؤقت، ومن ثم نقلها برّاً إلى قطاع غزّة عبر جسرين برّيين طول كلّ منهما نحو 550 مترًا. كما أعلن بايدن عن تولّي الجيش الأميركي مسؤولية بناء الرصيف البحري المؤقّت وحمايته لاحقًا، من دون وجودٍ عسكريٍ أميركيٍ داخل قطاع غزّة.
أثارت الخطّة الأميركية ردود أفعالٍ مختلفةً فلسطينيةً وإقليميةً ودوليةً، تمحورت حول مسائل عديدة، أولها مدّة إنشاء الرصيف البحري المؤقت، معظم التقديرات تتحدّث عن 60 يوماً، ثانيها؛ الجدوى العملية: تسلّط معظم الانتقادات الضوء على أن حلّ الأزمة الإنسانية في قطاع غزّة يمرّ عبر إرغام الاحتلال على السماح لشاحنات المساعدات بدخول القطاع برّاً من دون أي عوائق، خصوصاً في ظلّ تكدس الشاحنات على الطرف المصري من معبر كرم أبو سالم، فضلاً عن إرغامه على فتح كلّ المعابر البرّية مع قطاع غزّة، وتسهيل مرور شاحنات المساعدات منها. ثالثها؛ تحكّم الاحتلال الصهيوني: لا تعمل الخطة الأميركية على كسر الحصار الصهيوني، بل تعمل بالتنسيق معه على إدارته، الأمر الذي يثير شكوكاً عمليةً مشروعةً بشأن ضمان تسهيل الاحتلال تدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر مستقبلاً بحراً. رابعها؛ توزيع المساعدات: دخول المساعدات إلى القطاع المحاصر لا يضمن توزيعها على جميع الفلسطينيين، في ظلّ العوائق التي يفرضها الاحتلال، من قبيل منعه دخول شاحنات المساعدات إلى بعض مناطق القطاع، مثل الشمال، واعتداءاته المتكرّرة على مراكز المساعدات، واستهدافه المتكرّر شاحنات المساعدات، وإطلاقه النار على متلقي المساعدات في أثناء توزيعها، واستهدافه الدائم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فضلاً عن استهدافه المراكز الحكومية الخدمية في قطاع غزّة، الطرف الذي يدير شؤون القطاع وسكّانه، وفي مقدّمتها توزيع المساعدات. خامسها؛ الأهداف الأميركية والصهيونية غير المعلنة، إذ تدور تكهناتٌ عديدةٌ بشأن تلك الأهداف، لبعضها طابعٌ أمنيٌ يتعلق بتهيئة البيئة الإقليمية والدولية لاستمرار عدوان الاحتلال على قطاع غزّة، أيّ استمرار حرب الإبادة الجماعية، وأخرى اقتصادية تتعلّق بإحكام سيطرة الاحتلال وأميركا على ثروات فلسطين البحرية، خصوصاً الغازية منها، فضلاً عن أهدافٍ سياسيةٍ تتمثّل في تسهيل عمليات الاحتلال الصهيوني الساعية إلى تهجير الفلسطينيين قسْراً من فلسطين عموماً، ومن قطاع غزّة خصوصاً، إلى جانب تقويض نظام الحكم في غزّة، وبناء نظامٍ بديلٍ عميلٍ وتابعٍ للاحتلال.
ساد الارتباك الوسط الفلسطيني بعد الإعلان الأميركي عن الرصيف البحري المؤقت، فمن ناحيةٍ أولى يمثّل كسر الحصار وإفشال حرب التجويع أولويّةً فلسطينيةً، الأمر الذي يجعل من أي خطّةٍ تساهم في ذلك خطوةً مرحبّاً بها. لكن ومن ناحيةٍ ثانيةٍ تطرح الخطّة الأميركية تساؤلاتٍ عديدةً بشأن النقاط المذكورة سابقاً. ويساهم الإرباك الفلسطيني في تعبيد الطريق أمام أميركا والاحتلال الصهيوني للمضي في تنفيذ الخطة من دون أيّ ضوابط، الأمر الذي يتطلّب موقفاً فلسطينياً سريعاً يساهم في ضبط الخطّة الأميركية بما يخدم المصالح الفلسطينية كاملةً، وأهمّها إفشال حرب التجويع التي يشنها الاحتلال أولاً، وحماية الحقوق الوطنية الفلسطينية ثانياً. انطلاقاً من ذلك، يجب بناء الموقف الفلسطيني على أسسٍ صلبةٍ وقانونيةٍ واضحةٍ، لا تقبل المناورة أو التأويل الأميركي والصهيوني بشأن بناء الرصيف وإدارته وحمايته، كما تتعلّق بإعداد شحنات المساعدات وتنظيمها والإشراف عليها. وأخيراً، تتعلق بإيصال المساعدات إلى محتاجيها.
في ما يتعلق بإيصال المساعدات إلى محتاجيها، لا بدّ من التأكيد على دور "أونروا" ومسؤولياتها أمام القانون الدولي والأمم المتّحدة في هذا الشأن
يبعُد الرصيف المائي المؤقّت، وفق التسريبات الأميركية، عن شاطئ غزّة بنحو 600 مترٍ، أي يقع ضمن ما يعرّفها القانون الدولي بـ"الحدود البحرية الفلسطينية"، أو البحر الإقليمي الفلسطيني الذي يصل إلى نحو 12 ميلاً بحرياً؛ والميل البحري يعادل 1609.34 أمتار، بناء عليه يعد التموضع العسكري، والأعمال العسكرية من دون الحصول على مواقفة الفلسطينيين وقبولهم تدخلاً قسريًا، واحتلالاً عسكرياً، لذا لا يحقّ للولايات المتّحدة أو سواها تكليف أيّ من فرقها العسكرية بأيّ عملٍ كان ضمن هذا الحيز الجغرافي، سواءً لأغراض البناء والإنشاء أو الحماية الأمنية مستقبلاً، كما تنصّ المادة 19 من اتّفاقية الأمم المتّحدة لقانون البحار.
من هنا، على الطرف الفلسطيني؛ معظم الفصائل والأطراف الفلسطينية الفاعلة والمؤثرة، رفض التدخّل الأميركي المباشر في مياه فلسطين البحرية الإقليمية، واعتبار أي تدخّلٍ من هذا القبيل فعلاً احتلاليّاً مباشراً، يحوّل التواطؤ والشراكة الأميركية - الصهيونية في الجرائم المرتكبة بحقّ الفلسطينيين؛ وفي مقدّمتها جريمة الإبادة الجماعية، إلى شراكةٍ مباشرةٍ في احتلال أرض فلسطين وشعبها. وعليه، تغدو القوات الأميركية قوات احتلالٍ يحقّ لشعب فلسطين الأصلي مقاومتها بكلّ السبل الممكنة، ويتحمّل المجتمع الدولي المسؤولية القانونية والسياسية لمنع هذا الاحتلال المباشر.
بناء عليه، يرفض الفلسطينيون أيّ تدخلٍ أميركيٍ في مياههم الإقليمية استناداً لدور أميركا الفعلي في دعم احتلال فلسطين وتثبيته، وفق ما أعلن عنه عشرات المسؤولين الأميركيين، ومئات القرارات الأميركية، فضلاً عن آلاف المساعدات العسكرية الأميركية. لذا يعتقد الكاتب أن بناء الرصيف وإدارته وحمايته مسؤوليةٌ فلسطينيةٌ خالصةٌ، على اعتباره جزءاً من السيادة الفلسطينية الوطنية، كما يحقّ لهم تكليف جهةٍ دوليةٍ أو أمميةٍ بإحدى هذه المهام أو كلّها، كدولةٍ ثالثة مثلاً؛ أيرلندا، جنوب أفريقيا، الجزائر، أو طرفٍ أمميٍ كالأمم المتّحدة، أو "أونروا" التابعة للأمم المتحدة.
التواطؤ الأميركي مع جرائم الاحتلال، ومنها جريمتا التجويع والحصار منذ 17 عاماً، يجعل من الإشراف الأميركي والصهيوني على تنظيم شحنات المساعدات الإنسانية وتفتيشها مشبوهاً
التواطؤ الأميركي مع جرائم الاحتلال الصهيوني، ومنها جريمتا التجويع والحصار منذ 17 عاماً، يجعل من الإشراف الأميركي والصهيوني على تنظيم شحنات المساعدات الإنسانية وتفتيشها أمراً مشبوهاً، لأن الاحتلال هو المسؤول المباشر والأول، وأميركا من خلفه، عن جريمتي التجويع والحصار، كما لا يُخفي الاحتلال إصرارَه على استخدام هذه الوسائل المنافية للقانونين، الدولي والإنساني. وعليه، لا يمكن للاحتلال أو أميركا السيطرة على هذا الملف. وهنا أيضاً يمكن البحث في شأن إدارة هذا الملف عبر طرفٍ ثالثٍ موثوقٍ على المستوى الدولي، أو جهةٍ اعتباريةٍ أمميةٍ مثل وكالات الأمم المتّحدة، منظّمة الغذاء العالمي، أو منظمة الصحة العالمية، أو "أونروا"، أو عبر مشاركتهم جميعًا.
أخيراً؛ في ما يتعلق بإيصال المساعدات إلى محتاجيها، لا بدّ من التأكيد على دور "أونروا" ومسؤولياتها أمام القانون الدولي والأمم المتّحدة في هذا الشأن، كما يمكن العمل على تنسيق جهود "أونروا" مع منظماتٍ دوليةٍ وأطرافٍ فلسطينيةٍ مقبولةٍ فلسطينيًا لإدارة مهامّ توزيع المساعدات على محتاجيها، بشرط خضوع هذه العملية لرقابة ومتابعة الإعلام الغربي والدولي، وتحت حماية قرارٍ أمميٍ صادرٍ عن مجلس الأمن يضمن محاسبة أيّ طرفٍ مسؤولٍ عن إعاقة وصول المساعدات إلى محتاجيها من المدنيين الفلسطينيين في كامل قطاع غزّة، وفي مقدمتهم الاحتلال الصهيوني المسؤول المباشر عن مجمل الجرائم المرتكبة في أرض فلسطين المحتلة منذ 1948.
يعتقد الكاتب أن تأجيل إعلان موقفٍ فلسطينيٍ واضحٍ وحاسمٍ لن يصبّ في صالح الفلسطينيين أو حتّى قضيتهم العادلة، استناداً إلى تجاربٍ سابقةٍ عديدةٍ. لذا فمن الأفضل الإسراع في إعلان موقفٍ فلسطينيٍ يستند إلى القانون الدولي والإنساني لضمان الاستفادة القصوى من أي خطّة محتملةٍ، ومنع الاحتلال وشريكه الأميركي من الاستفادة منها بأهدافٍ خبيثةٍ أخرى مهما كانت.