اتحاد قبائل سيناء ومرض هشاشة الدولة العربية
عبّر نشطاء سياسيون وحقوقيون مصريون كثيرون عن مخاوف مشروعة جرّاء تأسيس ما يُعرف باتحاد القبائل العربية. وليست القضية في تأسيس اتحاد يمثل جماعة من المصريين، والذي قد يكون أمراً عادياً في سياق سياسي طبيعي يكفل حرّية التجمّع والتنظيم ضمن ضوابط دستورية دقيقة، ولكن القلق ينبع من السياق السياسي شديد الخصوصية لتشكيل هذا الاتحاد والإعلان عنه تحت الرعاية الرسمية الاحتفالية المبالغ فيها من الدولة المصرية وإعلامها الموالي. في وقت قصير، أصبح مؤسّس هذا الاتحاد ورئيسه، إبراهيم العرجاني، من أهم رجال الأعمال في مصر، وصاحب نفوذ سياسي واسع يعكس رغبة من السلطة الحاكمة بتقوية هذا التحالف باعتباره يخدم السلطة الحاكمة ويدعمها. وقد اكتسب العرجاني قوّته بالأساس من تسخير الجماعات القبلية المسلحة الموالية له في سيناء، للتحالف مع الجيش والأجهزة الأمنية خلال الحرب على الجماعات المسلحة في سيناء. وفي وقت قصير، دخل العرجاني في شراكة مع الدولة في إقامة مشروعات عمرانية وبنية تحتية. وبذلك يكون تصعيد الرجل وتشكيل اتحاد القبائل ليس مفاجأة، بل هو عرض لمرض أكبر لحق بالدولة المصرية، ودول عربية أخرى يتلخّص في هشاشة بنية تلك الدولة، واستعداد السلطات المستبدّة فيها لخوض أي مغامرات وبناء أي تحالفات قبلية أو جهوية لحماية السلطة. أصبح البقاء في السلطة هدفاً في حد ذاته، ولو على حساب الإضعاف المنهجي للدولة، وتقويض مؤسّساتها الدستورية والقانونية، وتشويه نسيجها المجتمعي.
تخبرنا التطورات السياسية في العقدين الأخيرين في دول مثل العراق وليبيا واليمن والسودان أن السلطة الباطشة الباقية في الحكم لا تعني بالضرورة دولة قوية، وأن طول أمد هذه السلطة الباطشة في الحكم لا يعني سوء تضخيم فداحة (وتداعيات) الانفجار الحتمي الذي سيخلف هذه السلطة في مرحلة لاحقة. أصبح الخطر الجسيم في هذه المنطقة هو هشاشة كيان الدولة ذاته، وفي أحيانٍ كثيرة، غياب الإجماع الوطني والمجتمعي على هذه الدولة وهويتها الوطنية. لا يكفي التفكير في مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية من دون مواجهة حقيقة أننا نشهد عصر انهيار وهشاشة كيان الدولة ذاته في كثير من دول المنطقة. تختلف حدّة هذا الانهيار وتسارعه من دولة إلى أخرى طبقاً لظروفها التاريخية، ومدى تماسكها الداخلي، لكن الحقيقة أن هشاشة الدولة العربية واقع، سواء كان يجري بشكل سريع أو عبر الموت البطيء. لن يكون لدفاع الديمقراطيين أو نشطاء حقوق الإنسان معنى إذا لم يكن هناك إدراك لحجم الاهتراء والانحطاط المؤسسي الذي وصل إليه كثيرٌ من دول المنطقة. لم تعد القضية مقتصرة فقط على وجود نظام ديمقراطي أو عدمه، فقياس مدى هشاشة الدولة أو تماسكها يتجاوز نمط نظام الحكم ذاته، مع التسليم بأن النظام الديمقراطي وحكم القانون يزيدان من فرص حماية الدولة وتصحيح مساراتها على المدى الطويل.
أصبح البقاء في السلطة هدفاً في حد ذاته، ولو على حساب الإضعاف المنهجي للدولة
في كتابه حول "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، 2020) يؤكّد عزمي بشارة أن الإجماع على الدولة يعد من المحدّدات الرئيسية لنجاح أي تحوّل ديمقراطي، "فالديمقراطية ليست فوضى، بل نظام حكم يقوم على سيادة القانون في دولة، والاختلاف لا يكون إلا في إطار الوحدة. أما في حال اتخاذ الاختلاف شكل صراع يشق الوحدة ذاتها، فإن الاختلاف لا يكون تعدّدية قوى داخل دولة تمكّن من التنافس الديمقراطي، بل تعدد كيانات أو دول".
ويعرّف التقرير العالمي لمقياس هشاشة الدول، والذي يصدر سنوياً عن صندوق السلام في الولايات المتحدة، الدولة الهشّة بأنها تلك الدولة التي تعجز عن أداء الوظائف الأساسية المتوقعة من حكومة ذات سيادة بفعالية. يعتمد هذا المقياس على تقييم تطبيق عدّة مؤشّرات تتعلق بدرجة الانقسام بين النخب السياسية المحلية، ومستويات التدخّلات الخارجية في الشؤون الداخلية، ومدى اعتبار الحكومة شرعية من المواطنين، وقدرة السلطات الحاكمة على تقديم الخدمات الأساسية والعامة، والقدرة على إنفاذ القوانين، والاحتكار الشرعي للعنف، وفعالية الأجهزة الأمنية في تحقيق الأمن الجنائي وإنفاذ القانون، وحماية سيادة القانون وحقوق الإنسان. وتشمل أيضا قياس عدة مؤشّرات اجتماعية واقتصادية، منها مستوى الضغوط الديمغرافية، وحدّة الظلم الاجتماعي، وهجرة الأدمغة والكفاءات، وجودة وفعالية الأداء الاقتصادي، واستقبال الاستثمارات الأجنبية، ومعدلات الفقر وعدم المساواة الاقتصادية.
لا يكفي التفكير في مستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية من دون مواجهة حقيقة أننا نشهد عصر انهيار وهشاشة كيان الدولة ذاته في عدّة دول
تصنف الدول العربية في تقرير عام 2023، وباستثناء معظم دول مجلس التعاون الخليجي، إما باعتبارها في مرحلة تنذر بالخطر مثل تونس، المغرب، الجزائر، أو في وضعية حرجة جداً مثل مصر، أو وضعية شديدة الهشاشة وعدم الاستقرار مثل العراق ولبنان وليبيا، وسورية، واليمن، والصومال. في هذا السياق المأساوي، فإن مساعي الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي لتكثيف التعاون مع الحكومات العربية في جنوب المتوسّط لمواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية واللاجئين بات من ضروب العبث. لن تتمكن هذه الدول المهترئة جنوب المتوسط من حراسة حدود أوروبا بشكل فعال مقابل المال. الإشكالية ليست فقط في استغلال ملف الهجرة من دول الجنوب لابتزاز أوروبا، ولكن تكمن في حقيقة أن هذه الدول تفتقر بالأساس للحد الأدنى من المقومات المطلوبة لتنظيم الحدود أو لتوفير الحد الأدنى من الظروف الحياتية الملائمة لمواطنيها لتجنيبهم خوض رحلة الموت عبر البحار للوصول إلى الضفة الثانية من المتوسط. إن أيّ تحرّك من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقتنا لا بد وأن ينتبه إلى كيفية التعامل مع الخلل العميق الذي أصاب كيان الدولة ذاته، وأن يكون في مقدّمة برنامجه الوسائل التفصيلية المطلوبة لتعزيز أركان الدولة الحديثة، ومؤسّساتها وقدراتها، وهو الأمر الذي يتطلب التعامل مع ما هو أعمق من رفع مطالب الحرية والليبرالية وتداول السلطة.