اتحاد الشغل التونسي والمرحلة الجديدة

24 فبراير 2023
+ الخط -

عندما أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، يوم 25 يوليو/ تموز 2021، قراره تجميد البرلمان والانفراد بصلاحيات تسيير الدولة، لم يتأخر موقف الاتحاد العام التونسي للشغل المؤيد للإجراء، إذ سرعان ما أصدر بيانا في اليوم الموالي، اعتبر فيه أنّ قرارات سعيّد ذلك اليوم "تتنزّل في سياق التوقّي من الخطر الداهم والسّعي إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدّولة". ورغم دعوته حينها إلى التمسّك بالشرعية الدستورية، إلا أنه ظلّ باستمرار تحت سقف إجراءات ما سمّاه "مسار 25 جويلية"، وهذا ما يفسّر ترحيبه بتعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة، معتبرا إياه "وسام شرف لكل التونسيين والتونسيات". وبعد الإعلان عن حل البرلمان، في 31 مارس/ آذار 2022، رحّب الاتحاد بهذا القرار، معتبرا إيّاه "فرصة بعد فترة من التردّد لاستعادة الثقة وطمأنة الشعب واسترجاع الأمل من أجل تصحيح المسار". ورغم أن السلطة ظلت تتجاهل اقتراحات "الاتحاد" بشأن إجراء حوار وطني أو طلب المشاركة في صنع ملامح المرحلة الجديدة، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل أصبح واقعا في حالةٍ من التردّد بين النقد المحتشم للسلطة وتأييده إجراءاتها بشكل متناقض، بما أفقده الكثير من الفاعلية والنفوذ اللذين كان يتمتع بهما في سنوات الديمقراطية.

بدأ الاتحاد التزنسي العام للشغل يفقد أوراقا كثيرة منحته صورته الفاعلة في سنوات ماضية

ربما لم يدرك "الاتحاد" أن السلطة الجديدة تسير نحو استثناء كل الأجسام الوسيطة من أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية وجمعيات مدنية من المشاركة في صناعة القرار، باعتبارها تتبنّى توجها مختلفا يقوم على فكرة البناء القاعدي التي لا تعترف بالعمل الحزبي أو الجمعياتي، باعتباره أساس أي نظام ديمقراطي. تدريجيا، بدأ الاتحاد يفقد أوراقا كثيرة منحته صورته الفاعلة في سنوات ماضية. وانطلاقا من المنشور 20 الذي صدر عن حكومة نجلاء بودن، والذي يحدّ من التفاوض مع النقابات، وصولا إلى محاكمة بعض النقابيين على خلفية إضرابات قطاعية، ومرورا بتحذير الرئيس من "أنّ الحقّ النقابي مضمونٌ بالدستور، ولكن لا يمكن أن يتحوّل إلى غطاء لمآرب سياسيّة لم تعد تخفى على أحد"، والتهديد بمحاسبة النقابيين الذين يعطّلون مرافق الدولة أصبح الاتحاد في حالةٍ من الارتباك بشأن أسلوب التعامل مع المرحلة السياسية الجديدة، وهو ما يتجلّى في تصريحات قيادات "الاتحاد"، حيث ما زال بعضهم يتحدّث عما يسمّيه نقد الانحرافات عن "مسار 25 جويلية"، ما يعني أنه ما زال يأمل في إيجاد موطئ قدم ضمن سياق النظام السياسي الحالي، وهو ما يفسّر رغبته في إطلاق مبادرة للحوار الوطني، تتجاهلها السلطة وتتعامل معها بكثير من اللامبالاة، وهو ما جعل القيادي في "الاتحاد"، سامي الطاهري، يؤكد في مقابلة مع "العربي الجديد" أنهم في ظل رفض الرئاسة المبادرة "لا نبقى مكتوفي الأيدي، بينما خيار الرئيس العزلة والذهاب في رأي فردي واحد، وعندها سنتجاوزه ونعمل على تجميع أكثر ما يمكن من التونسيين حول المشروع الجديد".

ما حصل بعد ثورة 2011 أن السلطة في تونس توزّعت على أطرافٍ شتى ومراكز متفاوتة من حيث القوة والتأثير

مشكلة قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل مماطلتها في فهم التحوّل السلطوي الحاد الذي تعرفه البلاد في المرحلة الحالية، والذي يتسم بإبعاد كل القوى النافذة والمؤثرة، أحزابا كانت أو منظمات اجتماعية، وأن ما يحصل هو إعادة تشكيل لبنية توزيع السلطة وحصرها في طرف واحد، فالذي حصل بعد ثورة 2011 أن السلطة في تونس توزّعت على أطرافٍ شتى ومراكز متفاوتة من حيث القوة والتأثير، ارتبط بعضها بالمواقع المنتخبة مثل البرلمان والحكومة، وأصبح بعض آخر مجالا لنفوذ منظمات اجتماعية مختلفة، في مقدمتها اتحادا الشغل والأعراف، فيما توزعت باقي مواقع السلطة بين منظمات المجتمع المدني المختلفة. وإذا كانت إجراءات 25 جويلية 2021 استهدفت، في لحظتها الأولى، إلغاء سلطة البرلمان ورئاسة الحكومة المنفصلة عن الرئاسة وإعادة تشكيل هندسة النظام السياسي عبر إصدار دستور جديد، فمن الطبيعي أن تكون اللحظة الموالية تتعلق بالحدّ من نفوذ المنظمات الاجتماعية، وسحب مواقع النفوذ التي راكمتها بعد الثورة، وفي ظل دستور 2014، وفي مقدمتها اتحاد الشغل الذي ظل متساوقا مع المرحلة الأولى، من دون وعي أنه سيكون عنوان المرحلة الثانية، وهو ما أفقده الكثير من القدرة على المبادرة، وجعله متأخّرا عن السلطة بخطوات. 
لم يعد ممكنا بالنسبة للاتحاد العام التونسي للشغل، ولا للمنظمات المدنية التي شاركته إدارة الحوار الوطني في 2013، ونالت بسببه جائزة نوبل للسلام سنة 2014، أن تقود اليوم حوارا مماثلا في ظل رفض أهم طرفٍ في تركيبة أي حوار وطني، أعني السلطة السياسية القائمة، وهو ما يجعله أمام خيارين، لكل منهما ثمنه، أحدهما الخضوع للسلطة الجديدة، والتخلي عن دوره التعديلي في الدفاع عن القطاعات العمالية، فضلا عن أن يكون له دور سياسي أو أن ينحاز إلى المعارضة، وهو ما يجعله فعليا في مواجهة السلطة، وهو ما يبدو خيارا مكلفا بالنسبة لقيادته الحالية على الأقل، وهي التي تخلت عن نزعتها النضالية لصالح دورها شريكا في السلطة، والطرف الذي يفرض شروطه على أحزاب الحكم، كما كان يفعل طوال العشرية الديمقراطية، وستكون الفترة المقبلة حاسمة في تحديد خياراته وأسلوب تعامله مع المرحلة الجديدة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.