إيطاليا التي تنتصر للاستبداد في تونس
صدر عن وزير الخارجية الإيطالي، أنطوني تاياني، قبل أيام، تصريح أخرق، "علينا ألا نترك تونس تسقط في أيادي الإخوان ..". كان صادما للنخب التونسية المعنية باستعادة تجربة الانتقال الديمقراطي التي أغلق قوسيها الرئيس قيس سعيّد. لم تصدُر عن السلطات التونسية أي مواقف، وهي التي كانت دوما تردّد حرصها على السيادة الوطنية ورفض أي تدخّل خارجي في شؤون البلاد. ولكن لمّا كان هذا التصريح متطابقا مع مواقفها صمتت ومعها أيضا مناصروها وقد استلطفوه، فاستقووا بالخارج، ضمنيا، على خصم عجزوا عن هزمه إلا بمعالجة أمنية فقدت فيها العدالة معاييرها.
ليست هي المرّة الأولى التي تساند فيها إيطاليا نظاما مستبدّا في تونس، فقد أوردت عدة صحف إيطالية، ومنها كوريرا دي لا سيرا، أن المخابرات الإيطالية بذلت قصارى جهدها من أجل ترتيبات ليلة 7 نوفمبر (1987)، وتتيح لبن علي الوزير الأول آنذاك أن ينقلب على الرئيس بورقيبة. ذكرت المصادر نفسها بعد أيام قليلة تفاصيل التنسيق المحكم بين إيطاليا وتونس وإحدى دول الجوار. كانت المكافأة فيما بعد إقامة رئيس الحكومة، بيتينو كراكسي، في تونس في فيلا ضخمة في مدينة الحمّامات السياحية، أين قضى بقية عمره إلى أن توفي ودفن هناك، مفضلا منفاه الاختياري على العيش في بلاده في مضايقات قضائية. منحت جامعة أنكونا الإيطالية الدكتوراه الفخرية لبن علي سنة 1997، وهو يفرم خصومه، غير مراعية واقع الحريات البائس. وتعيد جامعة لاسبينزا الشيء نفسه مع الرئيس الحالي قيس سعيّد. تتكفل إيطاليا بمنحنا هذه الشهادات، من دون أي إسناد حقيقي في حل المشاكل الحقيقية المتراكمة التي تمر بها تونس، وهي إحدى مصادر الهجرة غير الشرعية التي تحولت هوسا حادّا يصيب بشكل غير مسبوق البلدين.
لم تبد إيطاليا اهتماما بما يجري خارجها، إلا ما ندر. واكتفت بمتابعة ما يجري حولها في أوروبا أو في حوض المتوسط بكثير من السلبية والتبعية أحيانا
لا تبدي إيطاليا اهتماما بالانتقال الديمقراطي، وهي غير معنيّة به أصلا، ما يعود إلى أسباب عديدة، لعل أهمها انكفاء السياسة الإيطالية وضعف المجتمع المدني الإيطالي مقارنة بغيره من المجتمعات المدنية الأخرى التي تشتبك مع حكوماتها وأنظمتها على خلفية قضايا الديمقراطية، سواء في بلدانهم أو في بلدان مجاورة لها. ظلت إيطاليا متأخّرة على جميع الصعد، مقارنة ببلدان أوروبا الشمالية. ولذلك ظلت حسرة غرامشي مضاعفة، وقد كان يديم التساؤل: كيف يمكن أن تدرك إيطاليا حداثتها الاقتصادية: التصنيع، وحداثتها السياسية أيضا: الديمقراطية؟ واقترح حلولا ظلت الرياح تذريها. ظلّ الانتقال الديمقراطي المبكّر الذي شهدته إيطاليا بعد إنهاء الفاشية مشوّها، ولم يكتمل بعد: اقتصاد تسيطر عليه عائلات كارتلات، ثقة تقوم على زبونيات ملتبسة، أزمة شرخ جهوي حادّ نمت فيها شعبوياتٌ يمينيةٌ متطرّفة، علاوة على عنف وفساد، تحكم في مفاصل البلاد. اشتغل عالم الاقتصاد الأميركي بوتنام على هذه المواضيع الدقيقة، وقدّم درسا بليغا لنا في فهم سياقات بناء الثقة واعتبارها رأس مال اجتماعيا له علاقة وطيدة بالبنية الاقتصادية والأنثروبولوجية معا..
لم تبد إيطاليا اهتماما بما يجري خارجها، إلا ما ندر. واكتفت بمتابعة ما يجري حولها في أوروبا أو في حوض المتوسط بكثير من السلبية والتبعية أحيانا، رغم بعض ما تُبديه من مواقف تبدو متشنّجة، على غرار موقفها من جارتها فرنسا على خلفية موضوع الهجرة، وصلت أحيانا الى حد التلاسن بين مسؤولي البلدين. ومع صعود اليمين الشعبوي إلى الحكم بقيادة جورجيا ميلوني، سارعت إيطاليا إلى أن تكون لها مواقف واضحة، خصوصا في مسائل تخصّ المغرب العربي، وبدأت تتخذ مواقف من مختلف النزاعات التي تشهدها المنطقة، فضلا عن مواضيع مشتركة: الوضع الراهن في ليبيا، الخلاف الجزائري المغربي، فضلا عن قضية الهجرة، ... إلخ.
ظلّ موقف إيطاليا من الثورة التونسية ملتبسا، والأرجح أنها كانت تتحسّر على فقدان حليف لها
ظلّ موقف إيطاليا من الثورة التونسية ملتبسا، والأرجح أنها كانت تتحسّر على فقدان حليف لها. خلال عشر سنوات من تجربة الانتقال الديمقراطي، لم تنظر إيطاليا إلى تونس سوى أنها بلد عبور للهجرة، عليها أن تضغط عليه من أجل أن يعينها على "همّ الزمان". وفي كل الحالات، استبشرت بقدوم الرئيس سعيّد، وحرصت على أن يستتب له الأمن. وقد تنامت مخاوفها من التداعيات الوخيمة للحرب الروسية الأوكرانية، فحدودها الشمالية ليست بعيدة عن أيٍّ من الاحتمالات السيئة الممكنة. تجد إيطاليا نفسها عاجزةً عن التأثير في مجريات الأحداث، وهي لا تستطيع أن تعبّر، أصلا، حتى بموقف صريح واضح، رغم ضغوط الرئيس الأميركي بايدن عليها. لزمت الصمت موهمةً نفسها أن هذه اللامبالاة الظاهرية قد تكون يوما ما مفيدة. والحال أن كل المؤشّرات تفيد بأنها لن تكون في مأمن، لو استطاعت روسيا أن تنتصر في حربها التي تعد الربيع المقبل موسما لحسمها، أو على الأقل نقلها إلى طوْر آخر أشدّ خطورة. تخشى إيطاليا أن تتحوّل حدودها الشمالية معبرا لتدفقات اللاجئين الأوكرانيين، كما تخشى أن يكون مجالها ساحة حرب، ولو على تخوم، إذا ما تمدّدت الحرب إلى بلدان أخرى. لا تريد ايطاليا أن تستحضر إمكانية اندلاع حرب نووية، ولكنها لا تستبعد أن تُنتهك حدود دولية عديدة، ترسم حاليا خرائط الدول الوطنية الأوروبية.
يرعب هذا السيناريو إيطاليا، ولا تود أن تفكّر فيه أصلا. ولذلك كان عليها أن تبتكر استراتيجيا أخرى، تقوم على استغلال الوضع السيئ الذي تمرّ به جارتها تونس. تثير إيطاليا فزّاعة سقوط تونس من جديد، كما تقول، في أيادي الإخوان المسلمين، غير عابئة بتجربة انتقال ديمقراطية، يجري وأدها بشكل متعسّف. حجتها في ذلك أن الهجرة هي الخطر الداهم، وليس الاستبداد.