إيران... محنة التاريخ مع الجغرافيا
في إيران، رؤيتان تتنافسان. واحدةٌ تسعى إلى تطويع راهن الجغرافيا بالتاريخ وتلجأ الأخرى إلى التاريخ هروبا من حاضر الجغرافيا. ... بعد اندلاع الاحتجاجات، إثر مقتل مهسا أميني، عرَض المنظّرُ السياسي الإيراني، صادق زيبا كلام، مداخلاتٍ صوتيةً مقيّماً حالةَ الاحتجاجات ومقدماً مقارباتٍ نابعةً من موقفه المعارض للنظام، وفي الوقت نفسه، مستعرضا مخاوفَه من المآلات. زيبا كلام، وهو ناقدٌ أكاديمي لطبيعة الثيوقراطية الحاكمة ومنظّرٌ سياسي ترتاب منه ولايةُ الفقيه، حذّر من التعويل كثيرا على ما يمكن تسميتُه "الخصوصية الإيرانية"، منطلقا من وجود فجوات ثلاث، الاقتصادية والقومية والثقافية.
في إحدى المداخلات بداياتِ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، شدّد صادق زيبا كلام على أن الفجوة الثقافية تتّجه إلى أن تكون أخطرَ من الأخريين. يزيدُ من جدية الأزمة تعويلُ أوساط إيرانية كثيرة على التاريخ العميق لبلادهم وثقافتها وحضارتها لإنكار احتمالِ التصدعِ فضلا عن الانفراط. هؤلاء، كما يقول المنظّر السياسي، يرون شعبَهم أكثر تمدّناً من العراقيين والسوريين واللبنانيين والأفغان والصرب والكروات وغيرِهم ممَن شهدت ديارُهم حرائقَ بسبب صراعات قومية وثقافية، أو ما تزال شاهدة. إنهم يعتقدون أن حصانةَ الهوية الإيرانية الجامعة مستمرةٌ في منعها تأجيجَ منازعة المنقسمين. يجزمون أن الخوف من خطورة الشقاق الثقافي والقومي ناشئ من عدم الثقة بالحضارة الإيرانية والماضي الثقافي. بل يذهبون إلى أبعدَ إلى أن إيران أقربُ إلى دول مثل السويد والدنمارك والنرويج. هنا يطرح زيبا كلام قضيةَ الحجاب بوصفها نموذجاً لمؤشّرات طبيعة الشقاق الثقافي وجدّيةِ وضع الوحدةِ على المحك، خصوصا مع استمرار تغذيةِ السياسة الدينيةِ الانقسامَ.
غيرُ منصف القولُ إن بلاد فارس كما كانت تسمّى أو إيران كما سمّيت لاحقا تتميّز بأنها حضارة أعلى من حضارات شرق أوسطية
لمسألة "الخصوصية الإيرانية" صيغةٌ تاريخية، صيغةُ العراقة الضاربةِ في بلدٍ يرى نفسه الأهمَ في المنطقة، بل لا يشبهها بتاتا، إلا أن التعكّز على التاريخ العريق والتميّزِ الثقافي، إضافة إلى أنه مغالطة حاسمة، يستدعي تداعياتٍ خطيرةً هي ثمارٌ مُرّةٌ للتعامي أو التعالي على العامل الجغرافي الحاسم لأي بلد. بالطبع، حين نتحدّث عن إيران، بوصفها دولةً أو كياناً سياسياً، فإننا نتحدّث عن ثاني أقدم تكوينٍ متواصلٍ تقريبا في الشرق الأوسط، أي بعد تركيا. بدأ الهيكلُ السياسي مسارَه مع ظهور الدولة الصفوية بعد معاناة فارس قرنا من انقساماتٍ واسعةٍ إثر سقوط الإمبراطورية التيمورية. كوْنُ إطار الدولة مستمرّا قرونا، لا يعني التميزَ الحضاري. غيرُ منصف القولُ إن بلاد فارس كما كانت تسمّى أو إيران كما سميت لاحقا تتميّز بأنها حضارة أعلى من حضارات شرق أوسطية، سواء أقدمَ منها في بلاد ما بين النهرين ووادي النيل، أو عاصرتها في الأزمنة الإغريقية والرومانية والبيزنطية، أو أحدث كما في العهود الأموية والعباسية والفاطمية.
الاعتماد على التمدن الأميز والأثرى من الجوار، والبناءُ عليه بوصفه حصانة عصيةً أمام التشرذم، إضافة إلى كونه خطأً نابعا من نظرة مختزلة، هو وهمٌ ذو نتائج غيرِ حميدة ومغالطةٌ ذاتُ أسباب نرجسية. وأن يُنظر إلى إيران بوصفها كياناً اجتماعياً وثقافياً أقربَ إلى النموذج الأوروبي الغربي أو الإسكندنافي يعني القفزَ على الجغرافيا ومحاولةَ الهروب منها. الحال ليس جديدا، إنما انطباع اتسمت به الآلةُ الثقافية والسياسية منذ عقود. عانى منه رضا خان، مؤسّسُ المملكة البهلوية، حين تحالَف مع هتلر استنادا إلى الانتماء المشترك للعرق الآري (تخيّل أن الفرس والجرمان أولادُ عم). المزاجُ المتعالي على الجوار يزداد شراسة مع تنامي الشعور بأن النظام الديني القائم ليس إيرانيا بل هو مجرد إكراهِ خلقته حالة تناشز جغرافي، على الرغم من أن جميع الهياكل السياسية للبلاد على مدى خمسة قرون هي نظمٌ ذاتُ طبيعة إسلامية أو شبه إسلامية، ربما مع استثناء الفترة البهلوية التي خاضت بدورها معارك شرسة مع الخطاب الديني لم تنته لصالحها.
مرّت فارس بتحوّلاتٍ وانقساماتٍ وصراعاتٍ وغزواتٍ، وتشاركت نكباتٍ مع جوارها الشرقي والشمالي والغربي
هنا تبرز إشكاليةُ الهروب إلى التاريخ من الجغرافيا. فهو، فضلا عن كونه قراءةً انتقائية للماضي، يعد تجاهلا لمنطقة توجد فيها إيران. زد على ذلك أن تاريخ البلاد ليس دائما أفضلَ مِن محيطه. مرّت فارس بتحوّلات وانقسامات وصراعات وغزوات، وتشاركت نكباتٍ مع جوارها الشرقي والشمالي والغربي. أساسا، كان الطابعُ الديني للثورة مثالا صريحا على الأثر البالغ لأيديولوجية الجوار في الداخل. لم تنجح محاولاتُ رضا خان ونجلِه محمد رضا، آخرِ شاهين لإيران، وضعَ بلادِهم خارجَ سياقها الجغرافي. رجال الدين الذين درَس أغلبُهم في مدينة النجف العراقية أو أقاموا هناك، هم من قاد التغيير ووجهوه نحو الجمهورية الإسلامية وليس الديمقراطية. مِثْل إيران، حاولت تركيا على مدى قرن أن تَخرج من "لعنة" الجغرافيا بإيجاد واقع بديل، لكنها عادت في النهاية، وبات يروَّج لأردوغان بوصفه سلطانا أو خليفة إسلاميا يتدخل في أكثر من بلد واقعٍ على حدود برية بحرية جنوبية أريد نسيانُ وجودها. الشعب الإيراني، الذي يقدّم باعتباره مختلفا عن جواره اختلافاً جذرياً ويشبه أماكن أخرى بعيدة، هو نفسُه مَن صوّتَ بكثافة لتأسيس ما يسمى بالفارسية "جمهوري إسلامي" بقيادة آية الله (عناوين كلماتُها عربية - أيْ متأثرة بالمحيط).
صحيح أن بلاد فارس، على عكس بقاع مجاورة، كانت عصيةً على أن تتغير لغتُها إلى العربية، وأعادت إنتاج لسانِها الخاص مزيجا من الفارسية القديمة والعربية العباسية، منذ القرن الحادي عشر، وخلقتْ هويتَها الدينية الخاصة خلال قرون، إلا أن هذا لم يمنعها مِن أن تكون متأثرةً بمحيطها كما هي مؤثرة فيه ولن يمنعها. لذا لا ينفع التعكزُ على التاريخ (الانتقائي) في الهروب مِن واقع الجغرافيا وتداعياتِها. كما أن الانقسامات بحكم الصراعات القومية والثقافية ليست حكرا على جغرافية بعينها. كل بلد في العالم قابلٌ للاشتعال إن توفرت أسباب موضوعية دافعة ولم توجد أسباب موضوعية أخرى مانعة.
مقابلَ هذه القراءة المبتسرة للماضي، ظهر على مدى أربعة عقود انتقاءٌ من نوع آخر، تاريخي أيضا، ونحا إلى اتجاه مختلف. هو انتقاءٌ لتطويع الجغرافيا، مظهرُه عقائدي ثوري، أما عمقُه فالتمددُ إقليميا بناء أحلام تاريخية. مرّ هذا الوضع بأطوار بدأت مع تصدير الثورة في عهد مؤسّس الجمهورية الإسلامية آية الله خميني حيث كان خامنئي رئيسا، ثم الاستقرار والتعايش مع المحيط في زمن العقلانية الرفسنجانية والإصلاحية الخاتمية.
التاريخ ضد الجغرافيا حال أريد له أن يكون بوصلة أمةٍ في علاقتها مع محيطها
رغم هذا، ومنذ الاحتجاجات العراقية الرافضةِ الدورَ الإيراني عام 2019 ومقتل سليماني ثم الاحتجاجات الإيرانية، يبدو أن متغيرا يجري في بنية التصورات الإيرانية تجاه المحيط. من جانب أدركت الآلةُ الحاكمة أن ليس بمقدورها الاستمرارُ وفق النظرةِ المتعالية السابقة. يأتي التقاربُ الإيراني مع بعض الخصوم الإقليميين تعبيرا عن ذلك. غيرُ واضح بعد إنْ كان الحاكمون قد حرّروا وعيَهم من صندوق التاريخ، المتيقن أنهم فهموا، تكتيكيا على الأقل، عجْز السياسةِ السالفة، خصوصا مع التصور السائد إيرانيا أن السعودية لعبت دورا مهما في الاحتجاجات الأخيرة وباتت البلاد داخليا تحت مطرقة من تظن أنهم خاضعون لتأثيرها وليس العكس. يشبه الأمر ما يحدث مع المنظومة الأردوغانية الآخذة في التصالح مع خصومها الشرق الأوسطيين. من جانب آخر، تُقبِل بعضُ أوساط المعارضة سياسيا وثقافيا على الانخراط في فهم أنها بحاجة إلى المحيط الإقليمي الذي كان يُنظر إليه بوصفه أقل تمدنا.
بطبيعة الحال، ليست النظرةُ النرجسية حكرا على العين الإيرانية، هناك تجاذباتٌ تعاني أطرافُها من بصرٍ تحيط به غِماماتُ "بطولاتِ" الماضي، تتّخذ شكلا قوميا أو طائفيا أو دينيا... المحصلةُ أن التاريخ قضبانٌ داخلَه كثيرٌ مما يخيف. شريرٌ وقتما يسعى إلى لعب أدوار في الحاضر. إنه لا يحمل أحداً على ظهره، بل ربما يوضَع حدبةً على ظهور الشعوب تمنعُها من المضي مسرعة إلى المستقبل. ينسى البشرُ حاضرَهم عندما يتبنون ماضيَهم حلما أو فخرا أو انتماءً. يغفل كثيرون عن أن التاريخَ الدرسُ الأبلغ وليس بساطَ ريح يطوي الزمان والمكان. التاريخ ضد الجغرافيا حال أريد له أن يكون بوصلة أمةٍ في علاقتها مع محيطها. إنه باختصار أزمةُ جماعاتٍ عديدة، فضلا عن الأفراد، في التعامل مع الحاضر، تحديدا حين يكون جُرحا غائرا أو فخرا نرجسيا.