إهدار المنجز الديمقراطي في تونس

13 نوفمبر 2021
+ الخط -

راكمت تونس على امتداد العقد المنقضي (2021 -2011) منجزا ديمقراطيّا مهمّا، امتازت به عن بقية الدول العربية، وتصدّرت بموجبه قائمة الديمقراطيات الناشئة في العالم الثالث، فقد وضعت الثورة التونسية (2011) حدّا للحكم الفردي، ولهيْمنة الحزب الواحد على مفاصل الدولة، ومكّنت المواطنين من اختيار ممثّليهم في البرلمان، وفي قصر الرئاسة، وفي البلديات في كنف الحرّية، والنزاهة. وتداولت قياداتٌ حزبيةٌ وغير حزبية على إدارة مسؤولية الحكم في البلاد. وتمّ الفصل بيْن السلطات الثلاث (التشريعية، القضائية، التنفيذية). وتمتعت السلطة القضائية بقدْرٍ معتبر من الاستقلالية. وضمن الدستور التونسي الجديد (2014) الحرّيات العامّة والخاصّة، على نحوٍ ساهم في نشر ثقافة الاختلاف، وشجّع طيفا معتبرا من التونسيين على التنظّم الحزبي والجمعوي. كما شهدت البلاد تعدّدية إعلامية غير مسبوقة. وازدهرت في ظلّ عَقْد الحرّيات صحافة الرأي والرأي الآخر، وثقافة التدوين، وأدبيات نقد الشخصيات القيادية والمؤسّسات السيادية. لكنّ هذا المنجز الديمقراطي يوشك أن يذهب أدْراج الرياح مع استدامة التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد إبّان احتجاجات 25 يوليو/ تموز 2021، وصدور الأمر عدد 117، في 22/09/2021 الذي ركّز كلّ السلطات بيد رئيس الجمهورية. وأدّت تلك المستجدّات عمليّا إلى تبديد الحالة الديمقراطية. وجلّى ذلك تهميش الدستور، وتعطيل البرلمان، وانحسار الحريات العامّة والخاصّة.

يتبيّن النّاظر في متن دستور الجمهورية الثانية (2014) في غير عناء شموليّته، وطابعه التقدّمي، فقد تكوّن من 149 فصلا توزّعت على عشرة أبواب تعلّقت أساسا بالنصّ على هويّة الدّولة ونظامها، والتّفريق بين السّلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائية، والإعلاء من قيمة الحرّيات العامّة والخاصّة، وإقرار مبدأ اللامركزيّة الإداريّة والتنمويّة، وتأسيس هيئات دستوريّة مستقلّة، من قبيل هيئة الانتخابات وهيئة الحوكمة الرّشيدة وهيئة الاتّصال السّمعي البصري وضبط مجالاتها وكيفيّات اشتغالها، فضلا عن إقرار أبوابٍ خاصّة بتعديل الدّستور، وأخرى متعلّقة بالأحكام الانتقاليّة. ومن ثمّة، جاء الدّستور ميّالا إلى التّفصيل، حريصا على تعزيز دولة القانون والحرّيات، فجرى النصّ على حرّية الضمير، والتّفكير والتّعبير، والحقّ في النّفاذ إلى المعلومة، وفي الإعلان والنّشر، وتكوين الأحزاب والنّقابات والجمعيّات، فضلا عن الحقّ في الاجتماع والتّظاهر السّلميّين وحرّية الإبداع والبحث العلميّ والأكاديميّ. وتمّ النصّ على استقلال القضاء والمساواة بين المرأة والرّجل، وتثمين ما نصّ عليه دستور 1959 في مجال الأحوال الشخصيّة. وتجاوز ذلك إلى التّشريع للتعدّديّة السياسّة والثقافيّة، وتحديد صلاحيّات الرّئاسات الثلاث (الجمهوريّة/ الحكومة/ المجلس التأسيسي) على نحوٍ أسهم في تكريس منطق التّوازن بين السّلطات، وتعزيز الرّقابة القانونيّة على الحاكم والمحكوم على السّواء. وهو ما ساهم في الحدّ من سطوة السّلطة الفرديّة أو الحزبيّة أو الطبقيّة، وشرّع لنشأة بوادر دولة مواطنيّة، القرار فيها تشاركيّ، والسّلطة الفعليّة فيها بيد الشّعب الذي يختار ممثّليه، ويرسم مصيره في كنف الدّيمقراطيّة والنّزاهة.

المنجز الديمقراطي يوشك أن يذهب أدْراج الرياح مع استدامة التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد

والظاهر أنّ قيس سعيّد وجمهوره الشعبوي ضاقا بدستور توافقي/ تقدّمي، كان ثمرة حوارٍ وطنيٍّ موسّع بين مكوّنات المجتمع المدني. وصوّت لصالحه مئتا نائب من مجموع 217 من نوّاب المجلس التأسيسي. ومصدر الضيق الزعم إنّ الدستور الجديد لا يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، لذلك عمد قيس سعيّد وبطانته إلى استهداف المدوّنة الدستورية إبّان احتجاجات شعبوية محدودة. فاحتكر تأويله، وانزاح عن منطوق الفصل 80 في إعلانه التدابير الاستثنائية، وعمد في الأمر الرئاسي 117 إلى إصدار قرارات، غير مقيّدة بسقف زمني، اشتملت تعطيل جلّ أبواب الدستور باستثناء توطئته والبابين الأول والثاني منه، وإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، ومنح الرئيس نفسه صلاحية إدارة البلاد بالمراسيم، التي أضحت أعلى من الدستور، وترتّب مجالات شتّى، منها ما تعلّق بالحريات وحقوق الإنسان، والأحوال الشخصية، والإعلام، والنشر، ونشاط الأحزاب والجمعيات والنقابات، وتنظيم الهيئات الدستورية، وغير ذلك كثير.

أمّا البرلمان في الدول الديمقراطية فمؤسّسة دستورية مدنية منتخبة، وهيئة تشريعية وازنة، تمثّل الناخبين، وتعبّر عن إرادتهم، وتضطلع بعدّة أدوار مهمّة، من قبيل مناقشة المبادرات التشريعية، وسنّ القوانين أو إلغائها أو تعديلها، والتصديق على الاتفاقيات أو الاعتراض عليها، ومراقبة الأداء الحكومي ومؤسّسات الدولة. ومن أولويات مجلس النّواب تمثيل الشعب أمام السلطة التنفيذية، والدفاع عن حقوق الناخبين، والعمل على تحقيق مطالبهم، وتحسين معاشهم، وتسهيل إدارة شؤونهم في كنف الشفافية، والنزاهة، واحترام القانون. ويعدّ البرلمان من مكاسب تونس الحديثة، وغلب عليه بعد الاستقلال اللون الحزبي الواحد، وظلّ على امتداد عقود ظلّاً للنظام الرئاسي، وخاضعاً لهيمنة رئيس الجمهورية، ومبرّراً لتوجّهاته. وبعد الثورة، أصبح البرلمان تعدّدياً، وغدا ركناً متيناً من أركان السلطة في البلاد، وساهم في تأمين العبور من حقبة الدولة الشمولية إلى عصر الدولة الديمقراطية، وصاغ نوّاب الشعب دستور الجمهورية الثانية (2014) الذي منح البرلمان صلاحياتٍ تشريعية ورقابية وتمثيلية مهمّة، وهو ما عزّز الديمقراطية التشاركية والتوازن بين السلطات.

يتبيّن النّاظر في متن دستور الجمهورية الثانية (2014) في غير عناء شموليّته وطابعه التقدّمي

ولكنّ المشهود خصوصا بعد الانتخابات التشريعية 2019 نزوع كتلٍ نيابيةٍ إلى إغراق المجلس بمناقشة لوائح سياسية، خلافية، ليست على علاقةٍ مباشرةٍ بهموم التونسيين وشواغلهم اليومية. بل حملت طيّها خلفياتٌ أيديولوجية، وحساباتٌ حزبوية، وغاياتٌ شعبوية، وهي مسائل استهلكت الجهد والوقت، وعطّلت عمل البرلمان، وانزاحت به عن وظائفه الأساسية لتغذّي الاستقطاب، والتنافر، والتنافي داخل الاجتماع السياسي التونسي. ولعبت، في هذا السياق، كتلة الحزب الدستوري الحر دورا أساسيا في ترذيل مجلس نوّاب الشعب، من خلال تعطيل جلسات الاستماع للوزراء، والتشويش على مداخلات النواب بالصراخ واستخدام مكبّر صوت، واحتلال مكتب رئيس المجلس، وتوجيه عباراتٍ مشحونةٍ بالتحقير والكراهية لمن خالفهم الرأي. وذلك لغاياتٍ شعبويةٍ قوامها تحدّي النخب السياسية السائدة، ولفت انتباه الجمهور بإثارة الهرج والمرج والخروج عن المألوف. والقصد النهائي من ذلك تشويه المؤسسة النيابية، وتيئيس الناس من الديمقراطية. وتهيئة الرأي العام للقبول بعودة الحكم الدكتاتوري على كيْفٍ ما.

والمرجّح أنّ الرئيس قيس سعيّد استغلّ حالة التوتّر المشهودة في البرلمان، وتذمّر طيْف من التونسيين من أداء بعض النواب ومطالبتهم بحلّ المجلس التشريعي ليعلن تدابيره الاستثنائية لإدارة البلاد (25 يوليو/ تموز2021)، ونصّت على تعليق أعمال المجلس النيابي، وإعفاء رئيس الحكومة، ورفع الحصانة البرلمانية عن النواب، ومركزة السلطات الثلاث بيد رئيس الجمهورية. وجاء الأمر الرئاسي 117 الصادر في 22 سبتمبر/ أيلول 2021 لتمديد تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب إلى أجلٍ غير مسمّى، مع إيقاف صرف أجور رئيس البرلمان وأعضائه. كما تم بموجب الفصل الرابع منه تمكين رئيس الجمهورية من سنّ مراسيم في 29 مجالا، هي من صميم الاختصاص التشريعي للبرلمان مثل تنظيم القضاء والانتخابات والإعلام والصحافة. وتمّ تحصين المراسيم الرئاسية من كل رقابة قضائية وفقا للفصل السابع، باعتبارها لا تقبل الطعن بالإلغاء. ولم تعد الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، بل أمام رئيس الجمهورية الذي غدا في مقدوره إعفاء عضو أو أكثر في الفريق الحكومي. وفي ذلك ضرْب لمبدأ الفصل بين السلطات، وللدور الرقابي المتبادل بيْنها، وتعطيلٌ كامل لمؤسسة نيابية، تمثيلية، منتخبة، وتوجّه إلى التأسيس لحكم رئاسوي، فردي، مطلق ، يتحلّى بحلّة شعبوية، براغماتية، ظاهرة ، وينتهك الدستور صراحة.

إهدار المنجز الديمقراطي هدم لتضحيات شعب تعلّق بالحرّية، والكرامة، وخطوةٌ مفزعةٌ إلى الخلف

على الرغم من تأكيد رئيس الجمهورية مرارا أنّه الضّامن للحرّيات في فترة حكم الاستثناء، فإنّ هامش الحرّية تراجع بشكل ملحوظ مع فرض الإقامة الجبْرية على مواطنين، ومنع آخرين من السفر من دون تقديم إذن قضائي أو مبرّر قانوني. وتزايدت وتيرة التعامل الأمني العنيف مع الاحتجاجات الشعبية المطلبية المشروعة، ومثال ذلك أنّ السلطة الحاكمة واجهت مطالب أهالي مدينة عقارب (محافظة صفاقس) ببيئة نظيفة بهراوات البوليس والغاز المسيل للدموع. وتمّ اعتقال مدوّنين وإعلاميين ونوّاب وناشطين في المجتمع المدني، على خلفية آرائهم السياسية الناقدة للأداء الحكومي والرئاسي. وعبّرت منظّمة العفو الدولية في تقرير جديد (10/11/2021) عن قلقها بسبب ارتفاع عدد المدنيين التونسيين الذين يمثلون أمام محاكم عسكرية، وأشارت إلى أنّه "خلال الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة". كما تمّ غلق مكاتب وسائل إعلام عربية (قناة الجزيرة مثالا) وتونسية (هنيبعل، نسمة، الزيتونة...). وأفاد تقرير أصدرته هيئة الاتصال السمعي البصري بانحياز قنوات إعلامية بشكل مبالغ فيه لقيس سعيّد وأنصاره، بعد إعلانه التدابير الاستثنائية، وتهميشها مواقف المعارضين لقراراته السياسية على نحوٍ أخلّ بمطلب النزاهة والتعدّدية، وأخبر ببوادر عودة إعلام التمجيد والرأي الواحد.

ختاما، كان التأسيس للحكم الديمقراطي في تونس خطوة تقدّمية مهمّة على درب بناء دولة المواطنين والانخراط في الحداثة السياسية بامتياز. وإهدار المنجز الديمقراطي هو هدم لتضحيات شعب تعلّق بالحرّية، والكرامة، وهو خطوةٌ مفزعةٌ إلى الخلف، عواقبها وخيمة على الاجتماع التونسي كافّة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.