إنهم يشقّون طريقهم بين الجثث
بعد "طوفان الأقصى" جرت مياهٌ كثيرة، لكن الأميركيين ظلوا صامدين في مواقفهم، إسرائيل أولا وإسرائيل ثانيا وإسرائيل أخيرا، كرّر جو بايدن ما كان قد قاله مرّات: "لو لم تكن إسرائيل موجودة لعملنا على إيجادها"، و"دعم الولايات المتحدة إسرائيل ثابتٌ كالصخر"، قدّم دعما غير محدود لها منذ الساعات الأولى للحرب، أرسل إلى مياه الشرق الأوسط حاملتي طائرات عملاقتيْن، وسفنا وغوّاصات، وعشرة آلاف بحّار، ومفاعلا نوويا وترسانة صواريخ، كما أقام جسرا جويا للسلاح مع تل أبيب بمئات ملايين الدولارات، شمل آلاف القنابل والقذائف، وقنابل ذات رؤوس حربية خارقة للتحصينات، بموافقة الكونغرس أو من دونها، هدّد بأنه سيضرب في كل مكان يشعر أنه يشكّل خطراً على إسرائيل، أجهض عدّة محاولاتٍ لوقف الحرب، لأن "اسرائيل تدافع عن نفسها في مواجهة الارهاب"!
تعدّدت زيارات مسؤولين أميركيين وغربيين كبار إلى المنطقة لمواصلة التعبير عن دعم تل أبيب، جال وزير الخارجية أنتوني بلينكن المنطقة مكوكيا مرّات، التقى زعماءها، نقل عنهم أنهم "يتفهّمون القرارات والخيارات الصعبة التي يجب اتّخاذها"، كما تفهّموا "دعم الأميركيين ضمان عدم تكرار ما حدث في 7 أكتوبر"، وقال إن مسيرة التطبيع بين العرب والإسرائيليين ستتواصل بعد هزيمة "حماس"!
على الضفّة الأخرى، تنصّلت طهران التي تلقّت تهديداتٍ أميركية عن تنفيذ ما كانت روّجته أنها ستقاتل من أجل فلسطين والفلسطينيين، وأكّدت أنها غير مسؤولة عما قد يفعله "الوكلاء". وقي لحظةٍ فارقة، اختفى شعار "وحدة الساحات"، ضرب "الوكلاء" في غير ما مكانٍ في نوع من "المشاغلة" محسوبٌ ومكتوب، ولم يتوقّف الأميركيون عن اتّباع أسلوب التهدئة هنا، والضرب المحسوب والمكتوب هناك كي لا تتوسّع الدائرة. المهم القضاء على أهل غزّة اليوم قبل الغد. تنادى العالم كله من أجل وقف المجازر، حتى في الداخل الإسرائيلي هناك من يريد ذلك، لأنهم أدركوا أن استمرارها ينبئ بأيام سوداء قد تواجههم على أيدي الفلسطينيين، بنيامين نتنياهو وزمرته قرّروا المواصلة، قال الأميركيون "لا لوقف اطلاق النار"، لا كبيرة إلى أن يجهز الإسرائيليون على آخر طفل وشيخ وامرأة، هكذا شرعوا يعملون على شقّ طريقهم بين الجثث!
لم تتمكّن الدول العربية من فعل شيء، ولو أرادت لفعلت، لكنها اكتفت بكلمات مواساة وتعاطف، وذلك أضعف الإيمان
دولة جنوب أفريقيا "الشقيقة"، بلاد نيلسون مانديلا، تطوّعت لتقديم شكوى إلى محكمة العدل الدولية لإدانة إسرائيل نيابة عن العرب، بعدما تخلفت عن الفعل حكوماتهم وجامعتهم العتيدة الموصوفة بأنها "لا جامعة ولا عربية"، دعمت المطلب الأفريقي 13 دولة من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وتقدمت غير دولة عربية، على استحياء، لدعم المطلب المذكور.
كان رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا كريما معنا، عندما قال لنا: "بلدنا صغير، واقتصادنا صغير، لكننا سنظلّ متمسّكين بمبادئنا، ولن نكون أحرارا ما لم يتحرّر الفلسطينيون". وقرّر برلمانه طرد السفير الإسرائيلي، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، هل تسمع الدول العربية التي ينعم فيها سفراء تل أبيب بالأمن والأمان بخبر كهذا أم تتغافل عنه؟ وصف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حرب غزّة بأنها "حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني"، وصرخ في تجمّع شعبي: "فلسطين.. قاومي، قاومي حتى ينتفض العالم من أجلك"، رفض مادورو أكثر من مرّة إعادة العلاقات مع تل أبيب التي كان قد قطَعها سلفه الراحل هوغو تشافيز.
فعل زعماء وقادة آخرون مثل ذلك، هل هم أكثر "عروبة" منا؟ ... أقر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بأنه شعر بالرعب، إذ "حتى الحرب لها قواعد"، لكن مجلس الأمن بدا عاجزا عن فعل شيء لوقف المجزرة، واستكشاف طريق لوقف النار لسبب واحد، أن الأميركيين ماضون في شقّ طريقهم بين الجثث، وقد أسقطوا بفعلهم هذا كل طروحات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان التي يتشبث بها المظلومون والمخدوعون من بني البشر.
استمرّ العداد في إحصاء حصيلة حرب الإبادة، وفي اليوم المائة سجل أزيد من مائة ألف فلسطيني بين شهيد ومُصاب ومفقود، ولم يتوقّف بعد.
لم يتزحزح الإسرائيليون والأميركيون قيد أنملة عن مسارهم الشيطاني، وإصرارهم على عدم الإصغاء لصوت الشعوب، وواصلوا المضي في شقّ طريقهم بين الجثث. لم تتمكّن الدول العربية من فعل شيء، ولو أرادت لفعلت، لكنها اكتفت بكلمات مواساة وتعاطف، وذلك أضعف الإيمان.
مائة يوم، والعدّاد لم يتوقّف، والإسرائيليون والأميركيون ماضون في شقّ طريقهم بين الجثث.