إنهم يسوّقون الاحتلال

إنهم يسوّقون الاحتلال

26 نوفمبر 2023

(معمّر مكي)

+ الخط -

عندما بدأ العدوان على قطاع غزّة كانت الدعاية الصهيونية في أوجها، وسيل الأكاذيب يتصاعد، بداية من إشاعة الإبادة الجماعية وحرق الجثث لإسرائيليين، وصولا إلى خرافة قطع رؤوس عشرات الرضّع اليهود، بما يوحي بهمجية حركات المقاومة الفلسطينية وبربريّتها. تدريجيا، ومع طول أمد المواجهة بدأت السردية الصهيونية بالتفكّك والانكشاف، وهو ما يعني حالة من الفشل الدعائي الصهيوني غير المسبوقة منذ بداية زرع الكيان في الأرض العربية.

ومسألة الدعاية لدى الكيان الصهيوني مصيرية، فهو منذ البداية تأسس على جملة من الدعايات، لعل أبرزها كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" عند لحظة التأسيس، ولاحقا أكذوبة رمي اليهود في البحر التي شاعت في أثناء المواجهة العسكرية مع دول الطوق العربية. والحقيقة أن سياسة الإعلام لدى الصهاينة في زمن الحرب تقوم على ثنائية تبدو متناقضة، هما الدعاية والرقابة، ولكنهما يهدفان إلى الغرض نفسه، بل تكمل الدعاية أنظمة الرقابة، وفيما تعتمد الدعاية على بثّ فائض من المعلومات الكاذبة أو التي يتم التلاعب بها، تقوم الرقابة على النقص المتعمد للمعلومات. وهذان وجهان للاستراتيجية نفسها الموجّهة نحو الهيمنة النفسية والتلاعب بالعقول. وهذان النوعان من التلاعب مترابطان: فمن ناحية تفرض الأجهزة العسكرية رقابة مشدّدة على المعلومات المتعلقة بنشاطها العسكري، وتحاول التعتيم على الخسائر التي تلحقها بها المقاومة على الأرض، فالرقابة تنشئ حاجة إلى المعلومات تسارع الدعاية إلى سدّها، فإن الدعاية، من ناحية أخرى، تعمل بشكلٍ أفضل في غياب مصادر المعلومات الموثقة، وهذا ما يفسّر حالة الاستهداف المكثّف للإعلاميين والصحافيين الذين ينقلون الوقائع على الأرض.

لا يمكن للاحتلال الاستيطاني الإحلالي أن يتحوّل إلى صديق، مهما بالغ في الدعاية والكذب، ومهما حاول محسوبون على العرب تسويقه والاصطفاف خلفه

يدرك جهاز الدعاية الصهيوني أن حملته لترويج بعض التصوّرات والمفاهيم الزائفة عن المقاومة أضحت أكثر فشلا وأقلّ تأثيرا. ومن هنا، تغيرت الأهداف من إقناع الجمهور المتلقي بصحّة المعلومات التي يروّجونها إلى بثّ حالة من التشكيك والغموض، بدلا من الإقناع والشرح. وفي هذه الحالة، يكون هدفها عادة تجريد المقاوم الفلسطيني من إنسانيته وإثارة الكراهية ضد مجموعة معينة، وهي، في هذه الحالة، حركة حماس، رغم أن المستهدف من العدوان هو جملة الشعب الفلسطيني. وهذا ما يفسر اعتماد بعض وسائل الإعلام المتعاطفة مع الرؤية الصهيونية مصطلح الحرب بين إسرائيل و"حماس"، من خلال تغيير الصورة التي يحملها الواقع الذي يجري التلاعب به. وتتراوح أساليب الدعاية من إغفال الواقع إلى الإسناد عبر ترديد الأكاذيب.

وفي ظل الحرب المحتدمة، انحازت جهاتٌ عربيةٌ إلى الدعاية الصهيونية، وأصبحت تردد أكاذيبها، وبلغ الحال بقناة العربية إلى تكرار معجم التماهي بين حركة حماس وتنظيم داعش، بل وظهر أحد محلّليها العسكريين، وهو يشير إلى خريطة مستشفى الشفاء قائلا: هنا مركز قيادة "حماس"، وهو موقف أثار إعجاب الإعلام الصهيوني، وبرّره مدير القناة بأنه من باب الحيادية والموضوعية، وكأن موضوعية الإعلام في نظره هي الانخراط في حملة التسويق للدعاية الصهيونية بشكل فجّ ومباشر.

يظهر محلّلون ليتحدّثوا عن الكارثة الإنسانية التي تسبّبت بها المقاومة، ليتم تحميل الضحية مسؤولية ما يفعله الاحتلال

ولم يتوقّف تسويق الموقف الصهيوني عند هذا الحدّ، بل ظهر محلّلون ليتحدّثوا عن الكارثة الإنسانية التي تسبّبت فيها المقاومة، ليتم تحميل الضحية مسؤولية ما يفعله الاحتلال في حالة من قلب المفاهيم، القصد منها التلاعب بذهن الجمهور المتلقي في المنطقة العربية، والحد من التعاطف الواسع الذي يُبديه الشارع في دعم المقاومة الفلسطينية. ولتكتمل حلقات الدعاية الصهيونية في صبغتها العربية المزيّفة، ظهرت شخصيات دينية لتثير الشكوك بشأن ما يجري في غزّة بنزع ثوب القداسة عنه بوصفه جهادا، وتراوحت التعبيرات المستخدمة بين وصف المقاومة بالخوارج، أو وصفهم بالتنطّع الذي أدّى بأهل غزّة إلى التهلكة. وهنا كان للمدخلية السياسية بعلاقاتها المشبوهة دورا مركزيا في محاولة استخدام الخطاب الديني، إما للتشكيك في شرعية المقاومة أو إثارة النزعات المذهبية والطائفية خارج سياقها التاريخي.

يمكن الحسم، من دون تردّد، أن الدعاية الصهيونية المباشرة لم تجد أي قبول لدى الشارع العربي، بل هي تثير السخرية لديه. ومن هنا، ظهرت قنوات وجهات عربية لتقوم بالدور نفسه، ولكن من خلال استخدام العموميات المبهرة، والمصطلحات المشحونة بطابع العدل والفضيلة، فمن خلال الحديث عن الضحايا في غزّة، واستثارة المشاعر الإنسانية، ولكن من دون الإشارة إلى الاحتلال بوصفه سبب الكارثة، أو في اعتماد مصطلحات دينية في تقييم فعل المقاومة، لإظهاره مناقضا لجوهر الدين، يحاول هؤلاء تسويق الدعاية الصهيونية، غير أن نتائج مثل هذه الخطابات جاءت سلبية، بل أثارت ردات فعل ساخطة لدى الشارع العربي، لأن الصراع العربي الصهيوني ليس وليد اللحظة، وليس مجرد نزاع إقليمي بين طرفين، وإنما هو جزء من الوجدان العربي الذي يؤمن دائما بأن هذا صراع وجود، ولا يمكن للاحتلال الاستيطاني الإحلالي أن يتحوّل إلى صديق، مهما بالغ في الدعاية والكذب، ومهما حاول محسوبون على العرب تسويقه والاصطفاف خلفه.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.