إمارة الأسد الصغرى
لم تختلف الشعارات الثورية التي يرفعها السوريون في إدلب وريف حلب، وهي مناطق حكم جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، عن التي عادت منذ أشهر بصوت قوي تؤرّق نظام الرئيس السوري بشّار الأسد في السويداء ودرعا، وبعض المناطق التي تحت سيطرة أجهزته الأمنية وقمعها. ولعلّ تزامن التظاهر في أنحاء مختلفة للمطالب ذاتها، ومن نظر يمكن القول إنها متشابهة، أو أن بعضها تخدم بعضاً، يوضح أن المجتمع السوري لا يزال عصيّاً على استهداف وحدته الشعبية التي عملت أطراف عديدة (منها محلية أو متدخّلة في الصراع السوري) على زعزعتها واستدراجها إلى خانة الاحتراب الطائفي، أو القومي. وسواء كان التنسيق أحد أسباب وحدة الشعارات مع اختلاف الجهة المرفوعة ضدّه، أو جاء نتيجة طبيعية لإدراكات السوريين مخاطر الصمت عن الانتهاكات الممارسة بحقهم من جهات الأمر الواقع، يؤكّد ثبات مشروعية أهداف الثورة وأسبابها والحاجة إلى استمرارها.
وإذا كان شعار الحرية من كل الأطراف، وبوجه كل السلطات، لا يزال صالحاً لاستخدامه، فإن تأكيد وحدة الشعب السوري، بكل قومياته وانتماءاته الدينية والمرجعية، يشكل حجر الأساس الذي تقوم عليه الدولة الوطنية، في مواجهة مشروع تصفية التنوع الثري الذي يميز سورية، لمصلحة المجتمع "المتجانس" الذي عمل عليه الرئيس السوري، أو الذي يخدم ديكتاتورية الحاكم، سواء المتستر بعلمانية الحزب الواحد، كحال الأسد، أو القادم من أيديولوجية السلفية الدينية، كحال أبي محمد الجولاني، وكلاهما استخدم المنظومة الدينية لتطويع الأفكار الشعبية، واستخدامها أداة قمعية لمصلحة أهدافه السلطوية، لاستمرار هيمنتهما على الناس واستغلالهم، فحيث يسمّيها النظام قانون الدولة، تسميها جبهة النصرة، ومن هم تحت عباءتها سراً أو علانية، "حكم الشريعة".
خسرت الثورة السورية خلال 13 عاماً من عمرها وحدانيتها بوصفها حدثاً يومياً يتصدّر الأخبار العالمية
المواجهة التي يعلنها السوريون ضد الأنظمة الحاكمة بقوة السلاح والدعم الخارجي هي، في حقيقتها، مواجهة مع واقع ما آلت إليه ثورة السوريين التي انطلقت من درعا في مارس/ آذار 2011، وهي ثورة شعبية سلمية تنادي بالحرية والكرامة وحقوق المواطنة للجميع، وتوسّعت لتشمل كل المناطق السورية، ومرّت بمراحل عمرية وتحولات جذرية ثقافية ومجتمعية وسلطوية، قبل أن تعود لتخبو تحت صوت المدافع والقصف، وتترك الساحات للصراع المسلح والمرجعيات الأيدلوجية والقومية، والارتهانات الخارجية، أي إننا اليوم أمام استدراك لعمل سابق استحقّ فتح ملفاته، والعمل على إزاحة ما لحق به من زوائد واجبة الاستئصال بيد القوى الوطنية وعلى أسس العمل المشترك والتنسيق المجدي.
في المقابل، لا بد من ملاحظة المتغيرات على الساحة الدولية، فقد خسرت الثورة السورية خلال 13 عاماً من عمرها وحدانيتها بوصفها حدثاً يومياً يتصدّر الأخبار العالمية، وخرجت سورية بكل مآسيها من أولويات العمل في منظّمات المجتمع الدولي لأسباب عديدة، ليس خارجية فقط، باعتبار تعدّد جبهات الحرب المفتوحة عالمياً، وأهمها الحرب الروسية على أوكرانيا، والصراع الداخلي في السودان، والآن الحرب الإسرائيلية على غزّة ومداخلات إيران عبر وكلائها المليشياوية في اليمن والعراق ولبنان وسورية، وكذلك توالي الأزمات والكوارث، من أزمة كورونا التي قطعت أوصال التواصل بين مختلف الدول نحو عامين متتاليين، إلى الكوارث الطبيعية من زلازل وطوفانات وبراكين، زادت أعداد الضحايا والمحتاجين، وكسرت حواجز السياسة لمصلحة الإغاثة، كما حدث في الزلزال الذي أصاب تركيا وسورية (قهرمان مرعش) في 6 فبراير/ شباط 2023، وتجاوز عدد ضحاياه خمسين ألف قتيل وعشرات آلاف الجرحى وتدمير كامل لمدن وقرى، وحظي النظام السوري خلاله على فرصة قطع سلسلة العقوبات الأميركية والغربية والعربية المفروضة عليه، ولا يزال يستثمر ذلك عربياً على الأقل.
المواجهة الشعبية المتجددة، مع كلا نظامي الأسد والجولاني، تنبع من المطالب الثورية نفسها التي عبّر عنها السوريون
في مكان مقابل للأسد، استطاع الجولاني الذي سيطر على إدلب (بعد انسحاب مريب من مقاتلي حركة أحرار الشام التي كانت "محسوبة" على المعارضة السورية عام 2017) أن يشكل إمارته التي كانت إحدى المناطق المشمولة باتفاق خفض التصعيد من الدول الراعية لمسار أستانة (روسيا، إيران، تركيا) معتمداً، من جهة، على صمت إقليمي غير بريء تجاه توسّعه وتماديه على فصائل كانت مدعومة من تركيا. كما مارس، من جهة ثانية، إحكام قبضته الأمنية المتستّرة بحكم الشريعة على القاطنين في إدلب وسائر مناطق سيطرته، ومن خلال ذلك، أو تحت تلك الأحكام، ناهض مطالب الثورة في الحرّيات العامة، والخاصة، والدولة المدنية، والحقوق المواطنية، وهي المعادل لما فعله النظام من تقييد للمواطنين من خلال قانون الطوارئ، ولاحقاً قانون مكافحة الإرهاب، أي إن إمارة الجولاني استخدمت أساليب الحكم الأمني نفسها لتثبيت حكمها على الناس، وتشكيل دويلتها داخل الدولة السورية وعلى نهج سلطتها.
المواجهة الشعبية المتجددة، مع كلا نظامي الأسد والجولاني، تنبع من المطالب الثورية نفسها التي عبّر عنها السوريون، والذين يحيون ذكرى انطلاقة ثورتهم للعام الثالث عشر على التوالي، ولكنها هذه المرّة مع وعي مسبق للأثر السلبي لما يشكله الاعتماد على الارتهان لمصالح الدول التي يمكن أن تلوّح لهم بالدعم، أو الاحتواء لهذه المظاهرات، وهو ما تعبّر عنه لافتات المظاهرات الشعبية في كل من السويداء ودرعا وأرياف حلب وإدلب.
يمكن لكل بيان يصدر من الفاعلين على الأرض أن يلقى تعاطفاً ومناصرة من السوريين الأحرار
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل هذا التناغم، في طرق الرد أو تجاهل الرد الذي تنتهجه كل من أجهزة الأمن السورية في نظام الأسد، وجهاز الأمن العام في حكومة الجولاني، على المظاهرات التي تتوسّع تباعاً في المحافظات السورية، تلك الردود التي تتشابه إلى درجة التطابق، من اعتراف أعلى السلطات بوجود أخطاء فردية لدى هذه الجهات عند ممارستها وظيفتها الأمنية، خصوصاً ما يتعلق بالاعتقال والتعذيب "هذا ما قاله الجولاني، أخيراً، وقد سبقه إلى ذلك الأسد"، إلى التمسّك بها كياناتٍ تحمي وجود الأنظمة، وكأننا أمام إمارة خرجت من عباءة إمارة، وكلاهما يحاول مواجهة الغضب الشعبي بتمرير الزمن، والرهان على الملل، أو التجويع الممنهج للمناطق الثائرة.
يمكن لكل بيان يصدر من الفاعلين على الأرض أن يلقى تعاطفاً ومناصرة من السوريين الأحرار، لكنه حتماً يحتاج إلى كيان سياسي يستثمر في هذا الاجماع الشعبي، ويعمل من أجله، وتحت رقابته، للمضي إلى التغيير المنشود وإقامة الدولة الديمقراطية، وفي ظل اعتقاد الغالبية بغياب هذا الكيان، أو في ظل تجاهل الكيانات القائمة لأهمية ما يصدر عن الشعب، والعمل من أجل تحقيق مطالبه بعيداً عن محسوبيات المموّلين، يبقى السؤال كيف يثمر هذا الحراك أو من يستثمر به؟