إلى متى تستمر إسرائيل في استهداف الصحفيين؟
مع دخول حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة شهرها الرابع، سجل جيشها أرقاماً قياسية دامية، حيث تجاوز عدد ضحاياه من المدنيين الفلسطينيين 23 ألفاً، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال الأبرياء، فضلاً عن المفقودين تحت الأنقاض والجرحى والمصابين والمعاقين. ومنذ بدء حربها، عملت إسرائيل على طمس الحقيقة وإخفاء جرائمها الوحشية، وتعمّدت إسكات الأصوات التي تنقل حقيقة ما ترتكبه على أرض غزّة، من خلال الاستهداف المتعمّد للصحفيين والإعلاميين، إذ تفيد تقارير دولية ومحلية بأنها قتلت أكثر من 109 صحفيين منذ 7 أكتوبر، وتعمدت استهداف أفراد عائلاتهم، وقتلت عديدين منهم، وتجاوز عدد العاملين في وسائل الإعلام الذين قتلتهم إسرائيل خلال الثلاثة أشهر الماضية عدد للصحفيين الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت 20 عاماً، وهم 63 صحفياً، كما تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا، على مدى ست سنوات من الحرب العالمية الثانية، وهم 69 صحفياً.
بات السؤال الذي يُطرح، مع تواتر الاستهداف الإسرائيلي للصحفيين، بشأن حيثيات استمرارها في هذه السياسة من دون رادع، خصوصا وأنها لا تتوقف عند استهداف الصحفيين وعائلاتهم، عبر القتل والترويع والاعتقالات، وقصف استهداف منازلهم، إلى جانب التهديدات والاعتقالات في غزّة والضفة الغربية، بل تمتد إلى قصف جيش الاحتلال مكاتب وسائل الإعلام ومقرّاتها، وتدميره أكثر من 50 مقراً إعلامياً لوسائل محلية وأجنبية داخل قطاع غزّة، من ضمنها مكاتب عدة مؤسّسات إعلامية في برج الغفري، الذي كان يضم وكالة الأنباء الفرنسية وقناتي الجزيرة والشرق والمجموعة الإعلامية الفلسطينية، فضلاً عن تعطل كل الإذاعات العاملة في القطاع، وتوقفها عن البث، بسبب منع الكهرباء ونفاد مصادر الطاقة.
لم تكتف إسرائيل باستهداف الصحفيين الفلسطينيين في غزّة، بل فرضت قيوداً على ما تنشره وسائل الإعلام الغربية بشكل عام، حيث اشترطت الخضوع لرقابتها قبل نشرها أي صورة أو خبر عن وقائع حربها على الفلسطينيين، فضلاً عن عدم سماحها بدخول الصحفيين الأجانب إلى قطاع غزّة، والتضييق على كل من يحاول إظهار قدرٍ من الموضوعية في تغطية وقائع وأحداث حربها في غزّة، وممارساتها وأفعالها في الضفة الغربية.
المثير للسخرية والاستهجان الانحياز الأعمى من معظم وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل في حربها على غزّة، وتبنّيها الكامل للرواية الإسرائيلية
يبدو أن إسرائيل ماضية في سياسة استهدف العاملين في مجال الإعلام، طالما أن محكمة الجنايات الدولية، أو سواها من المنظمات الأممية ذات الصلة، لم تتحرّك للتحقيق في جرائم إسرائيل، على الرغم من أن منظمة "مراسلون بلا حدود" سبق وأن تقدّمت بطلبيْن إلى "الجنايات الدولية" بشأن الصحافيين الذين قتلتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر. وخرج أخيرا المدعي العام للمحكمة، كريم خان، ليعلن أن "التحقيق في الانتهاكات في الأراضي الفلسطينية سيشمل الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين"، بعدما طالب الأمين العام للمنظمة، كريستوف ديلوار، بردٍّ حاسم من المحكمة على الاستهداف الإسرائيلي المتعمد للصحفيين في هجمات ترقى إلى مستوى جرائم حرب، لكن التحقيقات لم تبدأ بعد، ولم يتم اتخاذ إجراءات ملموسة وضرورية طال انتظارها.
الواقع أن عدم وجود رادع حقيقي من مجلس الأمن والمنظمات الأممية جعل إسرائيل تتمادى في استهداف العاملين في وسائل الإعلام. ولعل قتلها مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أحد أبرز الشواهد على تعمّد الجيش الإسرائيلي قتل الصحفيين بدم بارد، ومع ذلك بقيت جريمتها من دون محاسبة أو مساءلة، ولجأت إلى إنكارها بوقاحة، لكن الأمر لم يتغيّر كثيراً حين توفرت مجموعة من أدلة دامغة، وردّت في تقرير الهيئة التابعة للأمم المتحدة، الذي اعتبر أن الجيش الإسرائيلي استخدم "القوة المميتة من دون مبرّر" في استهدافه أبو عاقلة، إضافة إلى أدلة أوردتها تحقيقات نشرتها شبكة سي أن أن وصحيفة نيويورك تايمز.
اعتادت إسرائيل على أن تضع نفسها فوق القانون الدولي والإنساني، بالنظر إلى الحماية التي تتلقاها من معظم دول الغرب ودعمها غير المشروط، وخصوصا من الولايات المتحدة، وبالتالي، لم تعد يهمّها كثيراً تقارير المنظمات الصحفية، التي تفضح سياساتها العنصرية، ولا التي تدينها وتفضحها وتشجب ممارساتها الدموية، فالقتل باتت عنواناً لدولةٍ تحكمها منذ نشأتها حكومات تعتبر استهداف الصحافيين الذين يحاولون نقل الحقيقة، والاعتداء عليهم، أمراً عادياً. لذلك تعوّدت قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين والأجهزة الأمنية، منذ سنوات طويلة، على قتل الصحفيين، الفلسطينيين والأجانب، أولئك الذين يرمون إلى إظهار حقيقة أفعالها، ويكشفون للرأي العام العالمي زيف الدعاية الصهيونية، التي تحاول دوماً الظهور بمظهر الضحية، وإخفاء حقيقة ما تفعله بضحاياها الفلسطينيين، الذي يرزحون تحت نير الاحتلال الاستيطاني والحصار الجائر، ونظام الغطرسة والفصل العنصري.
قصف جيش الاحتلال مكاتب لوسائل الإعلام ومقرّاتها، ودمّر أكثر من 50 مقراً إعلامياً لوسائل محلية وأجنبية داخل قطاع غزة
المثير للسخرية والاستهجان الانحياز الأعمى من معظم وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل في حربها على غزّة، وتبنّيها الكامل للرواية الإسرائيلية، من دون تدقيق أو تمحيص، وفرضها رقابة مشدّدة على ما ينشر بخصوص الحرب الإسرائيلية، وبات الخوف يسيطر على العاملين فيها، الذين يجنحون نحو الحيادية والمهنية، الأمر الذي أفقدها استقلاليتَها وحياديّتها المهنيّة، بالنظر إلى خضوعها لضغوط أصحابها والداعمين لها من أصحاب المال السياسي المنحازين لإسرائيل. وطاول ذلك كله مؤسّسات عريقة، مثل صحف نيويورك تايمز ولوس أنجلس تايمز والغارديان واللوموند وليبراسيون، وكذلك "بي بي سي" ووكالة أسوشييتد بريس، وغيرها. ووصل الانحياز لإسرائيل إلى درجة أن شبكة سي أن أن الإخبارية عيّنت مجندةً إسرائيليةً، عملت سابقاً في مكتب الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، مراسلة لها في تغطية أحداث الحرب الإسرائيلية على غزّة.
لقد بذل مشرّعون وحقوقيون جهوداً كبيرة، وعلى مدى عقود عديدة، من أجل وضع قواعد القانون الدولي الإنساني في أثناء الحروب والنزاعات، التي تحمي المدنيين بشكل عام. ونظراً إلى الاستهداف المتكرّر للصحفيين في أثناء عملهم الميداني، اعتمد مجلس الأمن في 27 مايو/ أيار 2015، وبالإجماع، القرار 2222، الخاص بحماية الصحافيين في مناطق النزاعات المسلحة، حيث أدرج هذا القرار مسألة حماية الصحفيين والعاملين في مجال الصحافة والأطقم المساعدة ضمن القانون الدولي الإنساني، حسبما نصّت عليه اتفاقية جنيف الرابعة، لكن هذا القرار وسواه من القرارات لم تردع إسرائيل عن استهدافهم، لتبقى المسألة معلقة في رسم المجتمع الدولي، فهل ستتحرّك مؤسّساته أخيراً؟