إعادة تشكيل النخبة الأردنية
من يراقب النقاشات الشعبية الأردنية منذ أعوام، في عمّان، وفي مختلف المحافظات، سيلاحظ أنّ هنالك أزمة في "النخبة السياسية"، وسيلاحظ انطباعاً عاماً يقوم على أنّ هنالك عملية توريث سياسي أو تدوير لنخبة محدودة على المواقع السياسية، بل وسيلاحظ أنّ هنالك قصورا واضحا في الماكينات التقليدية في إنتاج النخبة السياسية التي كانت في عقود سابقة إما تأتي عبر المؤسّسات البيروقراطية، مثل وزارة التربية والتعليم والضباط المتقاعدين، أو من رحم الأحزاب الأيديولوجية التقليدية. ولأسباب متعدّدة، لم تعد هذه الماكينات تزوّد الدولة بنخب سياسية قوية تمتلك مصداقية وفاعلية ملحوظتين في الشارع.
ومن الملاحظ كذلك، أنّ عملية اختيار الطبقة السياسية، سواء في الحكومات أو في المؤسّسات المختلفة، أصبحت أكثر صعوبة وتعقيداً، مع تزايد حالة الإحباط السياسي في الشارع وتدحرج الأزمات المالية والاقتصادية، ما انعكس على المزاج العام وموقفه من الحكومات المتعاقبة وغياب جسور التواصل المطلوبة بينها وبين الشارع.
من هنا، تشكّل اللحظة التاريخية الراهنة في الأردن فرصة مهمة لإعادة تشكيل النخبة السياسية الأردنية، عبر تطوير ماكينات إنتاج القيادات الوطنية التي تحمل ثقلاً شعبياً وتمتلك قاعدة مجتمعية، وفي الوقت نفسه، لديها (هذه القيادات) معرفة ومهارات سياسية تمكّنها من تطوير اللعبة السياسية وتنبثق عبر مسار يبدأ من الشارع نفسه وينتهي إلى المواقع السياسية، سواء كان ذلك في الحكم أو في المعارضة.
والمقصود باللحظة التاريخية المخاض الحزبي الراهن، الذي يرتبط بالتشريعات السياسية الجديدة، وتحديداً قانوني الانتخاب والأحزاب اللذين يربطان العملية السياسية بأسرها بصورة متدرّجة بانتقال الأحزاب من هامش العملية السياسية إلى قلبها، وبدورها في إنتاج النخبة القيادية بألوانها المتعدّدة، اليسارية واليمينية والإسلامية والوسطية وغيرها.
قيمة التشريعات والسياسات الجديدة أنّها استدخلت بصورة ملحوظة ومباشرة جيل الشباب والمرأة في العمل الحزبي والسياسي، بعدما تنامت الفجوة الجيلية في تشكيل الحكومات وفي المواقع القيادية في الدولة، ونمت حالة الاغتراب السياسي لدى جيل الشباب والشعور بالتهميش السياسي والاقتصادي، وكذلك الأمر لم يكن تمثيل المرأة يتناسب ولا يرقى إلى التحوّلات المجتمعية والثقافية والتقدم الكبير الذي حقّقته المرأة الأردنية في مختلف المجالات.
وإذا مضت هذه العملية كما هو مخطّط لها تشريعياً وسياسياً بالمسار المطلوب، فسيجد السياسيون أنفسهم مضطرّين إلى الانضمام لأحزاب سياسية تحملهم إلى قبّة البرلمان أو إلى الحكومة، التي ستكون مرتبطة بتشكلها وبرنامجها وخطابها بعلاقتها مع الشارع ومسؤوليتها أمام المواطن.
بالضرورة، ثمّة شكوكٌ مشروعة وتشكيك ملحوظ من تيارات سياسية، بل وشريحة اجتماعية واسعة، بإمكانية هذا التحوّل المنشود، وبمدى جدّية مؤسسة القرار بالوصول إلى هذه المرحلة، وهذا منطقي ومتوقع، لأنّ هنالك ضعفاً وارتباكاً في الرسائل الصادرة من المؤسسات المختلفة، وربما يعطي بعضها إشارات معكوسة، لكن ما يحدُث في الواقع من حراك اليوم وانخراط أعداد كبيرة من الشباب في المخاض الحالي بحدّ ذاته تطور مهم ونوعي في المشهد السياسي الأردني.
الحكم المسبق بفشل مشروع التغيير الراهن بأسره غير منطقي، ولعلّ القيمة الحقيقية اليوم في العملية ذاتها توازي أهمية النتيجة، فعندما نرى تشريعاتٍ وسياساتٍ وتحرّكات ومناهج دراسية كلها تسير نحو تطوير العمل الحزبي وتعزيزه، فهذا أمر لم يكن متاحاً قبل عامٍ واحد فقط، ولا يجوز اختزال المرحلة بتجربة حزبية أو تجربتين، بل المطلوب اليوم توسيع مساحة العمل واقتناص هذه الفرصة والنزول إلى الشارع والمساهمة في إنجاح الرهان على قدرة الأحزاب السياسية، حتى لو لم يكن جميع ما يحدُث مُرضياً أو لم تكن العملية بالحجم المطلوب من التحول في رأي متابعين عديدين.
من واقع ملاحظة شخصية، كمتابع للمشهد السياسي، فإنّ هنالك أعداداً جيدة من المواطنين، بخاصة جيل الشباب، بدت تتأثر بالحراك الحالي، وإن كان بعضهم متردداً بسبب الإرث التاريخي والمخاوف المشروعة التقليدية من العمل السياسي والرسائل السلبية التي تأتي في أحيان كثيرة مثبطة، إلاّ أنّ المسار يتعزّز والفرصة تكبر والمطلوب تضافر الطاقات للوصول إلى تحقيق اختراق أكبر في اللعبة السياسية.