إطالة أمد الأزمة في ليبيا

04 أكتوبر 2022
+ الخط -

عندما تسارعت الأحداث الليبية في السنة الماضية (2021)، عبر جلسات الحوار الوطني في جنيف، ثم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي والتمهيد للانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تُعقد في شهر ديسمبر/ كانون الأول، ثم بدأ كل شيء بالانهيار، بداية من تأجيل الانتخابات، والعجز عن إيجاد توافقات وطنية حول القاعدة الدستورية التي يمكن على أساسها تنظيم الانتخابات، وصولاً إلى تطور الأحداث نحو الإعلان عن حكومة جديدة برئاسة فتحي باشاغا، بدعم من قوى نافذة مستندة إلى التحالف مع رئاسة البرلمان المزمن، بدا الأمر وكأن الأطراف المختلفة بصدد تأجيج الأوضاع، ودفعها نحو مزيد من التعقيد ومنع الوصول إلى حل وطني يرضي الجميع، ويمنح الشعب الليبي فرصة التقاط الأنفاس، والخروج من نفق الفوضى والتقاتل العبثي المستمر.
المشهد الليبي الذي تتقاطع فيه التدخلات الدولية ومحاولات التمدد الإقليمي مع الصراع الداخلي المحتد، أصبح من قبيل المعتاد، ولم يعد من الممكن انتظار حلولٍ في الأمد القريب، خصوصاً في غياب العقلانية السياسية، وتصرّف بعض الأطراف الليبية بمنطق الاستفادة من الوضع القائم، بل وتأبيد الأزمة وضمان استمرارها. فبعد المحاولات العسكرية العنيفة المتكرّرة التي قامت بها المجموعات الموالية للحكومة الموازية، برئاسة فتحي باشاغا، لاقتحام العاصمة طرابلس، والاستيلاء على مقاليد السلطة من بين يدي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. أصبح المشهد سريالياً على النحو الذي يذكّر بالتنازع على السلطة في القرون الوسطى، بعيداً عن الآليات السياسية التي ابتدعها العقل البشري الحديث في حل النزاعات، وتجاوز الصراعات بشكل حضاري يحفظ للدولة هيبتها، وللشعب سيادته وقدرته على اختيار من يمثّله ويفوّضه لإدارة شؤونه العامة.

أي قرارات مقبلة قد يصدرها برلمان طبرق بنوابه لن تجد سبيلها إلى التنفيذ في العاصمة طرابلس

لقد تحوّل النزاع الليبي إلى حالة مركّبة من الصراع تتضمّن بعداً داخلياً يمثله صراع المؤسسات، كما يحصل بين مجلس النواب المزمن ومجلس الدولة، وهو ما ألقى بظلاله على مؤسّسات القضاء والبنك المركزي والتصرّف في الثروة الوطنية التي هي عماد حياة الليبيين. وفي المقابل، كان التدخل الخارجي يعمد إلى إشعال فتيل مزيدٍ من الأزمات، والسعي إلى وضع البلاد تحت نوع من الوصاية الخفية عبر القوى الموالية لها في الداخل، ففي وقت كان الجميع يعتقد أن المسار السياسي نحو تنظيم انتخابات برلمانية هو الخطوة الأولى نحو حل الأزمة، على الأقل في تجاوز مشكلة الشرعية التي تعانيها المؤسسات الليبية جميعاً، جاء قرار مجلس النواب في طبرق بإعفاء رئيس المحكمة العليا محمد الحافي، وتعيين آخر بدلاً عنه ليزيد في تعميق هوّة الانشقاق بين مناطق الجغرافية الليبية المنقسمة والخاضعة لمراكز قوى مختلفة تطمح جميعاً إلى تأبيد سلطانها، وكان قرار مجلس النواب المذكور قد جرى إقراره بمشاركة 50 نائباً فحسب، من جملة 170، رغم أن قراراً كهذا يحتاج أغلبية الثلثين بحسب الاتفاق السياسي.
في المقابل، أعلن رئيس المحكمة العليا عدم اعتداده بقرار المجلس، بل وأعاد فتح الدائرة الدستورية التي سبق لها أن أصدرت حكماً بعدم شرعية المجلس الحالي سنة 2014. وهكذا، انفتح باب جديد للصراع في ليبيا محوره هذه المرّة الهيئات الدستورية، في إطار صراع أشمل يظهر أن رئيس البرلمان، عقيلة صالح، ينوي خوضه ضد رؤساء الهيئات السيادية، وفي مقدمتهم محافظ البنك المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس هيئة الرقابة التي اعتبرها فاقدة للصفة القانونية ويجب استبدالها. ويدرك رئيس مجلس النواب أن هذه المناصب السيادية تخضع للتشاور بين مجلسي النواب والدولة، وهو ما يعني أن أي قرارات مقبلة قد يصدرها برلمان طبرق بنوابه لن تجد سبيلها إلى التنفيذ في العاصمة طرابلس، وأن اعتماد أسماء جديدة لإدارة هذه المؤسسات السيادية على نحو ما جرى بخصوص رئيس المحكمة العليا تعني، في المحصّلة النهائية، العودة إلى مربع انقسام المؤسسات، كما كان عليه الحال قبل 2021.

يستخدم باشاغا قرارات البرلمان لمزيد من الضغط السياسي والتضييق على حكومة الوحدة الوطنية

قد يكون الدافع وراء قرارات تصعيدية كهذه هو التغطية على فشل حكومة باشاغا في دخول العاصمة طرابلس، واستلامها ميزانية الدولة، كما كان يأمل عقيلة صالح، وهو بهذا يستخدم قرارات البرلمان لمزيد من الضغط السياسي والتضييق على حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والتي تحظى بالاعتراف الدولي، ولكن هذه اللعبة السياسية المتشعّبة لا يمكن إدراجها في خانة البحث عن حل حقيقي للأزمة في ليبيا، بل هي تطيل في عمرها، وتعيد الأوضاع إلى الحال التي كانت عليها قبل خطوات الانفراج التي جرت بعد حوارات جنيف السنة الماضية.
إطالة عمر الأزمة وتغذيتها بصراعات جديدة وفوضى القرارات المصاحبة لها تعني أن الطبقة السياسية الليبية الحالية لم تدرك بعد خطورة ما ألحقته ببلدها من كوارث، وهي في حاجة إلى أن تعي أن مصالح الوطن تقتضي عدم التصعيد والتنازل المتبادل من أجل تعايش سياسي ممكن، وإعادة الأمانة إلى الشعب لاختيار من يقوده بكل حرية وديمقراطية.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.