أيها السوريون .. بريطانيا تهوي تحت خط الفقر
يقول الخبر الذي قرأته، ويا للمفارقة العجيبة، على صفحات إحدى الصحف السورية المقرّبة من النظام: الشتاء قادم .. بريطانيا توزّع السترات على أطفال المدارس. .. وفي التفصيل، تواصل بريطانيا، بحسب الخبر، الإعلان عن إجراءات غير متوقعة لتخفيف استهلاك الطاقة التي ارتفعت أسعارها بشكل هائل، وبسبب عزمها على تخفيف درجات الحرارة بنسبة درجة أو درجتين، قرّرت المدارس البريطانية منح الطلاب فيها ستراتٍ دافئة لمواجهة البرد. يأتي ذلك، فيما يواجه البريطانيون أقوى موجة غلاء في أسعار الكهرباء بنسبة 80%، ما سيطيح كثيرين منهم تحت خط الفقر. انتهى الخبر المرفق بصورة لعدة تلاميذ بزيٍّ مدرسي، يظهرون بمنتهى الأناقة والنضارة والصحة، لكن المفارقات التي تأخذنا إلى أقاصي الذهول هجمت علي دفعة واحدة، إذ دفعني الخبر إلى التفكّر بالرسالة التي يحملها إلى الرأي العام السوري، وخصوصا أن خبرًا مشابهًا عن تقنين الطاقة في ألمانيا كان قد نشر قبل يوم من هذا؟
ما يلفت النظر في هذا الخبر النتيجة التي وصل إليها "ما سيطيح بالكثير منهم تحت خط الفقر"، فأين هو خط الفقر بالنسبة للمواطن البريطاني، وما هو الفارق بينه وبين خط الفقر السوري؟ في أبسط تعريف لخط الفقر، هو الحد الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الفرد أو الأسرة، في بلدٍ ما، حتى يكون بإمكانه العيش في مستوى ملائم. لكن ما هو المستوى الملائم؟ بالتأكيد، لا يُقصد به الملائم لدرجات معينة من الرفاهية، إنما هو الحد الأدنى من ضرورات الحياة، كالمأكل والملبس والمسكن والعناية الصحية والتعليم. أما في عصرنا الحالي، فلا يمكن إغفال الخدمات الرقمية والحصول على المعلومة والتواصل. ومن الطبيعي ألّا يخضع الجميع للمعايير ذاتها في كل أنحاء العالم، فهذا أمر إشكالي، يحتاج شرحًا وتفصيلًا، ولكن من المفيد الإشارة إلى أن هناك مصطلحًا آخر يشير إلى ظلم وجور أكبر بكثير من حالة خط الفقر، إنه العيش دونه، الفقر المدقع، وفي الإنكليزية يُدعى الفقر المطلق absolute poverty عندما يعجز الفرد عن تأمين واحد أو أكثر من ضروريات العيش، فكيف إذا كانت كلها تقريبًا أمست من شبه المستحيلات، وصار رغيف الخبز بحد ذاته الطموح والغاية والهدف، ويستنزف كل القدرات الجسدية والروحية؟
2.4 مليون طفل سوري خارج المدارس، وأكثر من 13 مليون سوري يحتاجون الرعاية الصحية
خط الفقر بالنسبة للمواطن البريطاني، وكذلك الأوروبي عمومًا، يختلف كثيرًا عن خط الفقر بالنسبة للسوري. ومن الواضح والمعلوم أن بريطانيا تمرّ بأزمة معيشية لم تشهد مثلها منذ الحرب العالمية الثانية، كما تقول التقارير، إذ وصل معدّل التضخّم إلى حوالي العشرة بالمائة، والأسعار باتت في ازدياد بما يرهق شريحة من المواطنين، ويصيّرها إلى أسرٍ فقيرة. كانت هذه الشريحة الفقيرة تعادل 17.4% في إحصاء 2020. وربما صارت الآن أكبر قليلًا، ولكن لا يمكن مقارنتها بالنسبة 95%، التي هي نسبة السوريين الذين باتوا تحت خط الفقر حاليًّا، وليس في الفقر، إذ لا بدّ من السؤال اليوم، ما هي قدرة الفرد السوري على الإنفاق على احتياجاته الحياتية في حدّها الأدنى؟ كلنا نتابع الأسعار، ونتابع القدرة الشرائية لليرة السورية التي تتهاوى باضطراد، ومتوسّط دخل الفرد السوري لا يتعدّى الدولار يوميًّا لدى الغالبية. طبعًا هذا متوسط الفرد المنتج، الذي يكون، في الغالب، مسؤولًا عن أسرة، ما يعني أن نصيب الفرد أقلّ من هذا بكثير، بالإضافة إلى الفجوة الكبيرة بين ما يصل إلى الفرد من الخدمات والمأمول المرجو. وإذا تطلعنا إلى لغة الأرقام والإحصائيات، فإن تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) للعام الماضي يفيد بأن هناك 2.4 مليون طفل سوري خارج المدارس، إذا أغفلنا الخدمات التي يجب أن يتلقاها الطفل في المدرسة، كما في حالة الطفل البريطاني، أو الأوروبي بشكل عام. أمّا الرعاية الصحية فتلك حكايةٌ أخرى، إذ، بحسب منظمة الصحة العالمية، تفيد التقارير بأن أكثر من 13 مليون سوري يحتاجون الرعاية الصحية. وبالنسبة للسكن، الصورة واضحة للعيان، إن كان في مناطق سيطرة النظام أو في أماكن سلطات الأمر الواقع، تكفي مشاهد الأحياء والبلدات المدمّرة، ومشاهد المخيمات، ومشاهد الناس وشكاويهم في استطلاعات الرأي، صار المسكن حلم شريحة كبيرة من السوريين، وأحد أهم عقبات الزواج لدى الشباب. وبالنسبة للمياه الصالحة للشرب، والمياه بشكل عام، يتطلب تأمينها معاناة كبيرة، إذ توجد أزمة مياه خانقة، كذلك الكهرباء والمحروقات والتدفئة ووسائل النقل وغيرها الكثير.
النظام التعليمي في سورية في تدهور مستمرّ، من حيث البنى التحتية والخدمات والجهاز التعليمي والتربوي
ليست المشاهد التي تضخ في الميديا بشكل عام، أو التي تبثّها الفضائيات المحلية، الصورة الحقيقية عن واقع الناس، فحتى المطاعم والمقاهي وأماكن الترفيه التي تبدو مزدحمةً، وكأنما ليس هناك حرب ولا أزمات تتوالد بعضها من بعض، فإن هذه المشاهد لا تمثّل إلّا شريحة قليلة جدا من السوريين، فلو أخذنا عدد هذه الأماكن المزدحمة واستيعابها، وأجرينا معادلة بسيطة، لرأينا أن من يرتادها لا يشكلون أكثر من النزر اليسير من الشعب، أولئك الضالعين في أزمة البقية ومعاناتها.
العام الدراسي الجديد على الأبواب، بعد أيام قليلة، فما الذي ينتظر أطفال سورية وطلابها؟ النظام التعليمي في تدهور مستمر، من حيث البنى التحتية والخدمات والجهاز التعليمي والتربوي، ومن حيث المكان المخصّص للطفل أو للطالب، يكفي أن يكون هناك عدد هائل من المدارس صار خارج الخدمة نتيجة الأعمال القتالية، أو إشغالها لصالح وظائف أخرى، ويكفي انعدام القدرة على الصيانة والتحديث في ما بقي، ويكفي أن الشتاء قادم ولا تدفئة ولا سترات تحمي من البرد، ولا تستطيع الحكومات في كل المناطق، خصوصا في منطقة النظام، تأمين هذه البديهيات للطلاب. لكن الحكومات الغربية تفعل، ولا تقف مكتوفة الأيدي ومشلولة العقل والمبادرة أمام المشكلات التي تتفاقم، كذلك المواطن فيها يعرف كيف يطالب بحقوقه، إذ كل يوم هناك إضرابات وهناك مظاهرات وهناك احتجاجات، وهناك حراك دؤوب لا يهدأ للحكومات، فغضب الشارع يُحسب له ألف حساب من قبلها، لذلك هناك دائما البحث عن حلول، وهناك خطط طويلة الأمد وتكتيكات مرحلية أيضًا، هناك محاولات جادة كي لا تذهب بلدانهم إلى المجهول.
باتت المشكلات العامة في سورية ككرة الثلج، تكبر وتنمو مع تدحرجها إلى الأمام، وتبدو أنها شبه عصية على الحل، وأن معظم السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تقدّمها الحكومة لا يمكن البناء عليها في أي أمرٍ مستدام، هي بمثابة حلول ترقيعية لنسيج مهترئ، فكيف، في واقع كهذا، يمكن تقديم ستراتٍ تقي من برد الشتاء لأطفال المدارس، الذين تبدأ معاناتهم من بيوتهم، منذ طفولتهم الأولى، معاناة الحرمان، ومعها تجربة التحضير للعيش في الفقر المدقع؟
لكن بريطانيا تنحدر إلى الفقر المدقع، أيها السوريون.