أين الهند مما يجري في غزّة؟
أكّد رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، لنظيره الإسرائيلي نتنياهو، في محادثة هاتفية قبل شهر، "وقوف الشعب الهندي بحزم إلى جانب إسرائيل في هذا الوقت الصعب"، معربًا عن قلقه بشأن "سلامة المواطنين الهنود وأمنهم في إسرائيل".
ورغم أن المطبخ الهندي يتّصف بأن أغلبية مكوّنات مأكولاته تتميّز بالبهارات الحارة، إلا أنّ دبلوماسيتها "باردة" من جهة التعاطي مع أحداث غزّة والمجازر الإسرائيلية اليومية بحق الفلسطينيين. لم يتوقف الأمر عند المحادثة، بل أخذت الهند موقفًا مؤيدًا لإسرائيل أقوى بكثير، حيث كانت من الدول التي عارضت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو إلى هدنة إنسانية في غزّة.
التغيير في موقف نيودلهي ليس كيديًا، إذ ليس من باب المصادفة أن تطلق حكومة مودي على البلاد اسم "البهار" بدل الهند، فالهدف من هذا إحداث صدمة تغيير ترتكز على القطيعة بين الهندين، القديمة والمعاصرة. وقد نشرت مجلة "ذا دبلومات" التي تتخذ من واشنطن مقرًّا لها، تقريرًا مطولًا، تفسّر فيه تغير موقف الهند من الصراع العربي الفلسطيني، وانقلابها على موقفها الرافض قرار الأمم المتحدة 181 عام 1947، تقسيم فلسطين إلى موقف مؤيد بشكل قوي لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها.
شهدت الهند تغيّرًا في السياسة تجاه الصراع القائم، بسبب ظهور القومية الهندوسية في الهند و"الأجندة" الانتخابية للحكومة الحالية، وجهودها للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة بأي ثمن، والهدف النهائي للقوميين الهندوس، وهو تأسيس سيادة هندوسية دائمة على المسلمين. ويرتبط التباعد الهندي أيضًا بالممر الاقتصادي الذي أُعلن عنه في 9 سبتمبر/ أيلول الماضي، من نيودلهي، أي مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا، على هامش قمة مجموعة العشرين، وهو يفترض أن يمتدّ من الهند إلى الإمارات، ثم يعبر بالسعودية والأردن وإسرائيل، قبل أن يصل إلى أوروبا.
من هنا يتبلور الموقف الهندي المتجه نحو الذهاب بعيدًا في تقديم الدعم لإسرائيل في الحرب الراهنة التي بات الجميع يدرك أنها طويلة، وستغيّر وجه المنطقة، فمودي كان من أوائل زعماء العالم الذين دانوا حركة حماس في هجومها (7 أكتوبر) على مستوطنات غلاف غزّة.
تتميّز السياسة الهندية لحكومة مودي، بالدبلوماسية "المخادعة"، التي تستطيع أن تسير بين نقاط الأزمات العالمية لتحفظ وجودها وحضورها دوليًا
من البداهة أن لا دولة تؤيد الظلم وتكون مع مرتكبي المجازر على حساب الأبرياء الذين جلّ ما يفعلونه أنهم لا يريدون مغادرة أراضيهم. لكن موقف الهند الداعم لإسرائيل على اعتبار أن ما تقوم به تل أبيب يدخل ضمن مكافحة الإرهاب، يعود إلى أن لنيودلهي حسابات ترفع بها نحو طموح يجعل منها لاعبًا تاريخيًا على مستوى العالم، حيث يتوقع أن يصبح اقتصادها في عام 2050 الأول بعد تخطيه الاقتصادين الصيني والأميركي.
تتميّز السياسة الهندية لحكومة مودي، بالدبلوماسية "المخادعة"، التي تستطيع أن تسير بين نقاط الأزمات العالمية لتحفظ وجودها وحضورها دوليًا. فهي لم تنجرّ وراء الغرب في وضع العقوبات على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، ولكن بالوقت نفسه نجدها تنخرط أكثر في المشاريع ذات الطابع المنافس للصين وروسيا ومن يدور في محورهما.
لا يتوقف الأمر عند تعاون الهند مع روسيا، حيث تشكل الهند إلى جانب الصين ركنًا أساسيًا في مجموعة "بريكس" المنافس الرئيسي لمجموعة دول السبع بقيادة الولايات المتحدة. فكل من روسيا والصين تتّخذان من هذه المجموعة إضافة إلى "قمة شنغهاي الاقتصادية" تحديًا لكسر هيمنة الاقتصاد الغربي، وتسعيان لإنهاء سطوة الدولار على التجارة الدولية. لهذا يقع المتابع في حيرة من سياسة الهند الخارجية، التي تتأرجح بين ممر اقتصادي هندي وبين وجود نيودلهي شريكة وعضوًا في مجموعات ومشاريع تشكل خطرًا جديًا على ممرها.
تتشعّب الحرب في غزة التي لا تشبه الحروب الكثيرة التي خاضتها إسرائيل مع حركات المقاومة حتى في حرب تموز 2006. فعلى ما يبدو مشروع الشرق الأوسط الجديد، يبدأ من نتائج العملية العسكرية في غزة، لهذا تجد الهند نفسها في جانب التصعيد الإسرائيلي، ضمن إطار القضاء على الحركات الإسلامية من جهة، وتعبيد الطريق لممرّها التجاري من جهة ثانية عبر قناة بن غوريون التي تسعى حكومة نتنياهو لتوسيعها وافتتاحها كنقطة وصل طبيعية بين الهند وأوروبا.