أيتها الأقلام ... وداعاً
(إلى ناي)
لم أكن أفهم لمَ كانت ابنتي تكسر رؤوسَ أقلام الرّصاص لتجمعها في وعاءٍ بلاستيكيّ صغير. لم يكن رماديُّ مادّة الرصاص وقتامتُه هما السبب، إذ كانت تفعل الأمر نفسه بأقلام الرسم بألوانها البهيّة المثيرة للرغبة. أَبْري لها القلم وأروّسه جيدا، ترغيبًا، أو كما أظنّ أنها تشتهي أن يكون، ثم، ما أن يتدبّب رأسُه ويستدير قليلا، حتى تُمسك به وتلويه بأصابعها الصّغيرة لتتمكّن من نزع رصاصته. هكذا، قلمًا بعد آخر، أنا أبري وأروّس، وهي تلوي وتكسر وتجمع الرصّاصات الرمادية في وعائها، حتى يتقزّم القلمُ ويُصبح عصيّا على الحَمْل من دون أن تتشنّج أصابعُها الصّغيرة وهي تجمّعها حوله لتتمكّن من إمساكه. ثم ارتقت صفّين، وجاء دورُ القلم الحبر الناشف. هذا، جعلت تدوّره وتتأمّل في رأسه، وتمرّر يديها عليه، حتى تتسخّا، وإذ رأت أن نَزعه غير سهل، بل غير ممكن، راحت تقسو عيه فتزرعه في الورقة ما استطاعت لكي يُظهّر خطّا هو أقرب إلى الحفر والنّحت منه إلى الكتابة. والحال أني لم أكن أفهم نزعتَها تلك إلى تسطير الحرف بقسوة، فأقدّر أنه ربما انعدام ثقتها بالأقلام عامّة، أو بقدرة هذي الأخيرة على إخراج الحروف المختبئة فيها، إن لم يجرِ الضغطُ عليها لانتزاعها بالقوّة.
إلى أن جاء دورُ قلم الحبر السيّال، ذاك الذي أحبّته لسببٍ ما، فرفقت به وعاملته أحسن معاملة، وكانت تتأنّى في استخدامه وتتآمر معه على جعل خطّها أنيقا، مستويا على الأسطر، منسابا بتناسقٍ قلّما شابته شائبة، وقد منّ الإلهُ على جيلها ومن سبقه، بقلمٍ آخر سحريٍّ هذه المرّة، قادرٍ على محو الحبر! ما زلت أذكر بريقَ عينيها وذهولَها وهي تُريني كيف أنّ بمقدوره إزالة كلّ الهفوات والتعديلات والشطوبات، بحركةٍ بسيطة، و"يا دار ما دخلك شرّ". أراها تُمسكه بتأنٍّ وتُعامله باحترام، فأقدّر ثانيةً، إذ لا سبيل لديّ لتحويل الظنّ إلى يقين، أنه ربما اعتقادُها بأنه هو، في النهاية، مكمنُ الكلمات، نبعُها السرّي من حيث تتدفّق ملهَمةً، غزيرةً، عذبةً، كما تتدفّق المياه من بين الصخور. السيولة مقابل النشاف، والحبر مقابل الرصاص ...
اليوم تركت ابنتي أقلامها إلى الشاشات الكثيرة، وأصبعت أناملُها التي تنتقل بخفّةٍ عجيبةٍ على أسطحها، هي الأقلام. أقلامٌ تكتب بكل اللغات، وتحكي العربية بأحرف لاتينية، وتجيد فنّ الاختصار بأحرفٍ أحتاج إلى استيضاحها في كل مرّة تراسلني فيها، من الغرفة المجاورة أحيانا، لطلب أي شيء. أقلامها ما زالت موجودة، والحاجة إليها قائمة حين تُضطرّ إلى ملء استماراتٍ مطبوعة أو إلى تدوين بعض الإجابات، لكنها أصبحت وكأنها للزينة، متنوّعة وبأحجامٍ وألوانٍ مختلفة، مركونةً في حافظةٍ مركونةٍ هي الأخرى داخل محفظتها المدرسية، شيء من الأكسسوار، نستخدمه أحيانا ولكن بإمكاننا الاستغناء كلّية عنه. بعض المدارس، قيل لي، استغنت كليةً عن الكتب والأوراق والأقلام والحبر والمماحي، وإلى ما هنالك من عدّة الكتابة والتدريس، واكتفت بشاشات "الآيباد" لا تحتاج مساحةً للتوضيب، تحتوي كمّا هائلا من الكتب والصور والتمارين، وتخفّف أثقالا عن أظهُر الأطفال وأذرعهم...
أذكر، أني حين راج الهاتفُ الجوّال وتأخّرتُ جدا في اقتنائه إلى أن بات استخدامُه ضرورةً ملحّة من ضرورات حياتنا العصرية، لم أقتنع إلا حين التقيتُ بفصيلةٍ معيّنة، تلك التي تحتوي قلمًا يمكن استخدامه لتدوين الملاحظات، بخط اليد، على الشاشة السوداء. "سامسونغ نوت" يُدعى، وما زلت مخلصة له، جيلا إثر جيل، لا حبّا به، وإنّما تعلّقا بالقلم الذي يرافقه، والذي، في نهاية الأمر، قلّما عمدتُ إلى استخدمه، اللّهم إلا إذا انقطعت من حولي كلُّ سبل التدوين المعتادة واحتجتُ، مذعورةً، إلى تسجيل فكرة مهمّة قبل أن تُفلت هاربةً من بين خروم ذاكرتي النسّاءة التي راحت تضعُف يومًا بعد يوم.