أيامنا العادية
أيامُنا العادية، تلك التي من أقمشةٍ تتطاير في الهواء خفيفةً، ظليلةً، متماوجةً، قبل أن تتبقّع وتتهلهل وتُرقّع، قد انتهت لتحلّ مكانها أيامٌ أخرى من نارٍ وأحماضٍ حارقة وزفت. نصحو، فلا نتنفّس هواءً عليلاً ولا نشرب ماءً رقراقاً ولا ننعم بنور شمس، بل تأتي صباحاتُنا تالفة، بائدة، مثل بقايا أعلاكٍ كوتشوكية تذيبها حرارةُ الإسفلت لتعلق بالأحذية والأمزجة.
تبدأ نهاراتنا بالنَّقص، كأنّ ساعاتٍ كثيرةً ضاعت منها، أو كأنّ دقائقها ركدت فتكثفت وتكدّست حتى تحوّلت عقباتٍ مرتفعةً تفركش جريانَ الوقت وتجعله يتعثّر، فلا يعدو ولا يمضي ولا يمرّ ولا يطول ولا يقصُر، بل يراوح حتى يدخل في بُعد رابعٍ وخامس وسادس، حيث يأسن ويتعفّن. هكذا، أصبحنا نغفو بنصف عين، مدركين أنّ ثمة صنّاعاً يفبركون أوقاتنا بدلا عنّا، وأنهم، ما أن نطأ عتبةَ النهار، حتى يُفرغوا فوق رؤوسنا سِلالاً ملأى بأيامٍ عجيبةٍ غريبة، مخيطة على عجل، لا نعرف لها هويةً ولا نفقه لها معنىً.
منذ الصبيحة الباكرة، يدخل العنفُ البليغُ مسامَنا ليدمغها بشمعه، يتغلغل في أعماق خلايانا ويُقفل أنفاسَنا. فما نسمعه يومياً ليس نبأً في صحيفة، وليس خبرًا على صفحات وسائل الإعلام، إنه أسيدٌ حارقٌ نُرمى به، سكاكينُ حادّة تُغرز في بطوننا، سمومٌ تُدسّ تحت الجلود، فماذا تراك فاعلٌ بهذا كلّه أيها الغريب؟ وكيف لك أن تبتلع كلّ هذا الملح، أن تحتمل كلّ هذي المرارة، كلّ تلك القسوة؟
أسبوعٌ من أسابيعنا العادية يطرُق الباب، قادماً برفقة شابةٍ مصريةٍ ذُبحت أمام جامعتها على يد من رفضته حبيباً، ومناضل فلسطيني اعترف الجميع بنضاله المشرّف من أجل قضيته، قبل أن يُستباح دمُه بتهمة المثلية، وإقطاعيّ لبناني يُرسل رجاله المسلّحين لربط عمّاله وجلدهم بأسلاك الكهرباء بعد اتهامهم بالسرقة، وجائزة أدبية تُمنح لشاعرٍ تونسيٍّ متحرّش رفعت طالباتٌ كثيرات دعاوى ضده، وطُرد من معهد التعليم حيث كان يدرّس...
لكلّ أسبوع قائمته من الأعمال والارتكابات الفظيعة التي تجري بين ظهرانينا، والتي، بفعل التزايد والتكرار، باتت خبزَنا اليوميّ. لكنّنا لا نتحدّث هنا عن عنفٍ منظّم ترتكبه الدول بواسطة أجهزتها الأمنية والقمعية، أو عن ظواهر فردية تُرى هنا وهناك. لا، نحن نعني ذاك العنف المنفلت، السائب، غير المنضبط، الذي يأكل ويعيش بيننا، يسري بين جيراننا وأهلنا ومواطنينا، يتكاثر ويتعمّم ويصبح عاديا، كأنّه "رياضة" ترفيهية دائرة في حلبةٍ عامةٍ يتحلّق من حولها المشاهدون، متفاعلين حماسة وصراخاً وتصفيقاً وهتافاً. ومن يتمكّن من تجاوز معرفة تفاصيل تلك الأحداث المروّعة، لسبر ردود الفعل بشأنها، سوف يفهم عاجلاً إلى أي دركٍ انحدرنا، لأنّ المخيف فعلاً ليس الحدث أو الجُرم بحدّ نفسه، بقدر ما هي تلك الأذرع الممدودة والخناصر الموجّهة نحو الأرض، مطالبة بوجوب إعدام... الضحية.
نعم. تُذبح نيرة أشرف، الشابة العشرينية التي في عمر الزهور، من الوريد إلى الوريد، كالشاة، تُذبح في وضح النهار، أمام المارة، فتناقش الجماهيرُ أسبابَ تعرّضها للذبح، منتهية إلى أنها، أي نيّرة، بسفورها وحرّيتها وتعليمها إنما تستفزّ الخطر وتستدعيه، فيما يكمن أمانُها ونفاذُها من الخطر في احتشامها ورضوخها وارتداء الحجاب ويتمّ تحويل الناشط الفلسطيني محمد الكرد، بعدما كان "البطل" الذي نقل قصة حي الشيخ جرّاح ومعاناة الشعب الفلسطيني إلى العالم أجمع، إلى "شيطان وخائن وعار على القضية الفلسطينية" بعدما نُشرت صورة قديمة له يظهر فيها مشاركاً في فعالية نظمتها مؤسّسة داعمة لمجتمع الميم والمثليين خلال سنوات دراسته في نيويورك .. الأمثلة عديدة ولا مجال هنا لذكرها، حفلاتُ صلبٍ جماعية، ومبارياتٌ في من يظهر أشدّ بربريةً وبطشاً وقسوة، ومسابقاتٌ في المقدرة على السَّحل والاغتيال الاجتماعي، هذا فيما نحن سائرون إلى مقبرتنا، جذلين منتشين راضين عن سيرنا على الصراط المستقيم.